لم أْعتقد يوماً أن للألفة كل هذه المساحة في حياتي وعقلي ومشاعري، الألفة التي تجعل صوت الأم هو أول صوت يألفه المولود وأول دفء يستريح إليه ويركن، التي تجعل من علاقتنا مع إخوتنا رغم كل الاختلاف -والخلاف أحياناً- مختلفة عن أي علاقة بشرية أخرى.
وكأنه تبين لي فجأةً كيف كنت طوال حياتي أهرب من شعور عدم الألفة وأفر منه فراراً، كانت أول أيام العودة للدراسة بداية كل عام تعد كابوساً بالنسبة لي، أصر على أمي كي تصطحبني حتى بلغت الحادية عشرة من عمري، وقبل المرحلة الابتدائية كان بكائي وسط الساحة ورفضي لدخول الفصل وطلبي لأمي يعد روتيناً صباحياً، “اشعر بالرغبة في التقيء، أريد العودة للمنزل” جملة كررتها مرات وكرات على أمي حيث أنني لم أكن اعرف بعد أن ذلك الشعور الذي يعصف بالمعدة يسمى توتراً وقلقاً.
محاولة الانخراط والانتماء كانت كابوساً بالنسبة لي، ربما ما جعلني أرى كل شيء بهذا الوضوح حالياً هو أنني بدأت عملاً جديداً هذا الأسبوع، ولعدة أسباب ظاهرة وأخرى لا أعلمها شعرت بأنه أغرب أسبوع مررت به خلال حياتي، كل شيء بدا غير مألوفٍ فيه، كل ما يحدث بدا خارج أي “سيناريو” معتاد، كنت أعود كل يوم إلى المنزل لأحاول لم هذا الشتات الذي أشعر به. كنت أقول في نفسي ربما هو حجم المكان واختلافه عن ذلك الذي أتيت منه، كل شيء يبدو غريباً في البداية، لكنه ثالث عمل ألتحق به وسبق لي العمل في مكان يماثله ضخامة ولم يغمرني هذا الشعور بالغربة.
لا أريد الحكم سريعاً، ولكنني استقريت على أنه سواء استمريت في هذا المكان أو غلب شعوري بعدم الألفة قدرتي على الاستمرار، فإنه قدر لي الوجود في الوقت الحالي في هذا الظرف والمكان، وكل شيء له حكمة لا تتجلى لي حالياً -وقد لا تتجلى لي أثناء حياتي-، ولكن ربما علي أن أتعلم شيئاً كنت ظننت أنني تعلمته وتخطيته، إلا أن هذا المكان أعادني إلى ذلك الشعور الأول: رغبتي الخفية -حتى عن نفسي- في أن يتم قبولي وتقبلي من المحيط الذي أتواجد فيه، ألا أقف موقفاً أشعر فيه بالاغتراب عن الآخرين وعدم القدرة على الانخراط معهم حتى وإن كان يعني ذلك ألا اكون نفسي الحقيقية حولهم.
بدأت أرى وألاحظ حولي دور الألفة في حياتنا، “وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا”، “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً”، “وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ”، تلك الألفة البِكر التي أحس بها وقت الفجر والسكون الذي يلف الكون ويثبت فؤادي خلال مثل هذه الأيام.
وكما أن للإنسان قدرةٌ هائلة على التكيف، فإنه يتوق ويحن إلى المألوف، ولذا كانت الألفة الأولى للإنسان هي ألفته مع من نفخ فيه من روحه، ألفته مع خالقه ومسويه، مع من هو أقرب اليه من حبل وريده، ألفة باقية أبد الدهر، لا يغيرها حال ولا مآل. وكلما استوعب هذا مبكراً كلما استطاع أن يتجاوز ويتخطى ويتقوى ويستغني بهذه الألفة عما سواها من المتغيرات.