يأكلني القلق ويلوكني، تتكاثف عليّ الأفكار والمشاعر كأطفالٍ في رحلة مدرسية يترجلون من الباص ركضاً لدخول مدينة الملاهي-الوصف ألطف كثيراً من الوقع- أحاول أخذ نفسٍ عميق لأنني أشعر بالغثيان من شدة القلق لتبدأ دموعي في الانهمار في كل مرة، لم أشعر بثقل الوجود كما أفعل الآن.
هذه الأيام أشعر وكأنني عمود قشٍّ في وسط المحيط، يجذبه الموج إلى أعمق قيعانه المظلمة تارةً ثم يلفظه خارجه سريعاً إلى شاطئه، وتعيد الأمواج القبض عليه لتبتلعه ثم تلفظه وهكذا، دواليك.
لا أبحث عن أجوبةٍ سريعة كما كنت سابقاً، أحاول ألا ألقي باللوم على أي مما مضى وألا أنظر بعقلية الضحية أو نفسيتها. لا أريد اتخاذ قرارٍ سريعٍ لأنه أكثر راحةٍ آنياً من العيش في هذا القلق الصامد المفزع. أرغب في الوصول إلى الحقيقة هذه المرة. في كل مرةٍ كنت أقرر سريعاً كانت تستمر في لسعي قرصات الشك والندم فيما بعد وأقنع نفسي “منطقاً” بصواب ما ارتئيت.
لكن قلبي الذي تقول عنه الست “ولي بين الضلوعِ دمٌ ولحمٌ هما الواهي الذي ثكل الشباب” هو الذي يستمر في الركل كطفلٍ غير راضٍ ولا قانع، أتمنى لو كان مع القلب دليلٌ للتعامل معه. لا أستطيع القول أن قلبي هو دليلي، لأن عليه من الشوائب وفيه من الرواسب ما الله به عليم، وعملية محاولة تخليته والوصول إلى حقيقته منهكةٌ ومفزعة لأن كل منطقٍ يصبح غير حقيقي، فالقلب لا يفكر بالمنطق، وتكتوي نفسي بهذا الصراع صبحاً ومساءً.
أخاف نفسي والاستماع لها، لا أستطيع الثقة بها ولا تفتيد أصواتها: أهذا صوت قلبي حقاً مجرداً من كل العوالق؟ أم هذه أصوات المثالية الغير واقعية التي اعتادتها الأعين والأذهان في كل مكان؟ هل هو الخوف النابع من عدم التسليم؟ هل هو صوت ذلك الطفل الغير واثق الباحث عمن يطبب جرحه؟ أم أنني ألقي نواقصي على غيري؟ هل يُشفى القلب من أعطابه أم أنني “تورطت” به؟
وكأن نفسي تُطحن بين شِقَّيّ الرَّحى حتى أصبحت كالخرقة البالية، لكنني أسمح للألم في هذه المرة أن يمر من خلالي، خليّةً خليّة، أجبر نفسي على البقاء فيه وعدم الركض منه جزعاً.
يمسح عليها استشعار رحمات يقينٍ بأن الألم هذا لا يمتد، أنني وكلت أمري لمن سوّى هذا القلب وخلقه ويقلبه بين يديه كيف يشاء، لأن الحقيقة القاطعة ألا سلطان لي عليه إلا بأمره. يمسح علي بين الحين والآخر استرجاع لحظات مماثلة في الماضي -لم تصل يوماً لهذا الألم- لكن كل قاعٍ وصلته جردني من اعتقاد أنني أعلم أو أخبر بنفسي، كان بعده درجةً أعلى من المعرفة الحقيقية
“وقد جمعت في باطنك صفات، منها صفات البهائم ومنها صفات السباع ومنها صفات الملائكة; فالروح حقيقة جوهرك وغيرها غريبٌ منك. وليس القلب هذه القطعة اللحمية التي في الصدر من الجانب الأيسر، لأنه يكون في الدواب والموتى. وكل شيءٍ تبصره بعين الظاهر فهو من هذا العالم الذي يُسمّى عالم الشهادة، وأما حقيقة القلب فليس من هذا العالم، لكنه من عالم الغيب فهو في هذا العالم غريب.”
– أبي حامد الغزالي
ما وراء هذا الصمت؟
إعجابLiked by 1 person
كنت زي الجهاز المعلق اللي يحتاج إلى صيانة وإعادة “فرمتة”..
إعجابإعجاب