يحيط رمضان إحساس بالألفة لم يتغير على مدى الأعوام والأحوال، تشبه ما أطلقت عليه الألفة الأولى، هل لقيام سكان المدينة الواحدة بتناول الطعام في نفس الوقت تقريباً دور؟ لتشابه أنواع الأطعمة؟ أم لأن أغلب العائلات وإن لم يكن كلها تجتمع في وقت واحدٍ باختلاف السكن وعدم انسجام الأوقات الذي يمنع الاجتماع خلال الأيام العادية؟
أعتقد أن ألفتي اتجاهه ثابتة بتغير الأحوال ومرور السنين وتبدل الأشخاص. اليوم أثناء مشوار الذهاب إلى عائلتي لتناول الإفطار قبيل المغرب، شعرت بحنين مفاجئ اتجاه “رمضانات جدة”، فلسنين طويلة ومن بعد وفاة جدي رحمه الله منذ ما يزيد عن عشرين عاماً أصبحنا نقضي رمضان والعيد فيها، واستمر ذلك حتى قبل ثلاثة أعوام تقريباً.
شعرت بحنين إلى فوضى واستعجال الاستعداد للخروج قبل المغرب، إلى الرطوبة اللي تلفح وجهي قبل المغرب أثناء مشاهدة السيارات المستعجلة في الطريق إلى تناول الإفطار لدى أحد الأقارب، وإلى زيارة الأقارب والشعور بالألفة التي تصاحب زيارة بيوتهم التي أحفظ تفاصيلها عن ظهر القلب منذ الطفولة.
غريب هو شعور الحنين لأمور كنت كثيرة التذمر منها، ورمضان الحالي يحمل معه الكثر منه. لا يسبب لي ذلك شعوراً حزيناً، بل على العكس، أشعر بأن الحنين يجعلني أتلمس بعض الجذور التي أنسى وجودها بين الحين والآخر.
قبل عدة أسابيع، غمرني شعور مفاجئ لا أعرف مصدره، لكن لوهلة عادت بي الذاكرة إلى لقطات محددة من الطفولة كنت فيها سعيدة وشديدة الحماس والفضول اتجاه العالم، واستوعبت أمراً كان مفاجئة بالنسبة لي: هذا الظل القاتم الذي صاحبني على مر سنين طويلة لم يكن هنالك منذ البداية كما تصوّر لي.
لا زلت أتذكر أول جلسةٍ لي مع مُعالِجتي عندما أخبرتني أنه يسمى اكتئاباً وسألتني: هل تذكرين متى بدأ معكِ؟ وأخبرتها حينها أنني لا أتذكر نفسي أبداً دون هذا الظل المصاحب إلا أنني كنت أعتقد أن كل من على الأرض يحملون نفس المشاعر ولم أعتقد أنه يحمل اسماً محدداً.
بعد انتهاء تذكر هذه اللقطات المفاجئة غمرني شعورٌ بالارتياح، فهذا ليس جزءٌ أساسيٌ من تكويني، وهو ليس جذرٌ رئيسيٌ لنفسي كما ترسخ في ذهني لطول السنين وتراكم الأمور والأحداث.
شعرتُ بالرضى وبالشكر وبالامتنان، لم أتصور يوماً أنني قد أصل إلى هنا أو أن أرى شكل الأشياء أو أشعر بها كما أفعل الآن، ولم أعتقد يوماً بعد السنين العجاف أنني سأتمكن من التعرف إلى الأمل مرة أخرى.
فالحمد والفضل لله المبدئ المعيد الذي يحيي العظام وهي رميم.