أثرٌ لا يُرى

المدة الماضية كانت مليئة بالتقلبات، ظننت أنني وصلت إلى القاع مرة أخرى وأخافني ذلك كثيراً، إلا أن ذلك الشعور المظلم بدأ بالتزحزح تدريجياً وبدأت طاقتي الجسدية والنفسية تعود لي.

أعمل على تقبل الاستسلام للأيام السيئة لأنني أعلم ألا شيء يدوم على حاله وأن الأحوال تتغير وتتقلب وأحتسب أنها من أشواك الحياة الدنيا التي لا أملك التحكم بها، وعندما أمر بأيام جيدة أحاول استشعارها ملء حواسي دون التركيز على معرفتي بأنها ستمضي كغيرها، بل أصبح علمي بمضيها دافعاً أكبر للتشبع منها والامتنان لها.

البارحة اجتمعت لأول مرة مع شخص سيقوم بالإشراف عليّ في خطة تطويرية في العمل، سألني عدة أسئلة تتعلق بشخصيتي وخبرتي ومدى رغبتي في أن أكون في المكان الذي أتواجد فيه حالياً وما هي الأماكن التي تم وضعي فيها ولم يكن لي خيار في ذلك وما الذي أتطلع شخصياً للاستمرار فيه، ثم حدثني عن نفسه وعن أبناءه وبناته وتنقلاته، وأخيراً ختم حديثه معي بأنني أستطيع التواصل معه عند مواجهة أي صعوبات مهنية أو شخصية.

شعرت بعد الاجتماع أن هنالك شعورٌ ما تحرك لدي أكاد لا أتذكر المرة الأخيرة للشعور به، شعور يتعلق بكونه “إنسان” وبكوني “إنسانة” كذلك.
أعتقد أن العمل في أماكن ضخمة في السنوات الثلاثة الأخيرة قللت كثيراً من الشعور ب”أنسنة” مكان العمل والتعامل مع الأشخاص ومن هم أعلى مرتبة في السلم الوظيفي.

أؤمن أن الشعور ينتقل، وصدق حديثه وبساطته واستعداده الحقيقي للمساعدة جعلني أشعر ب”آلية” الآخرين إن صح التعبير. فالتعامل كله يشبه التعامل مع الأجهزة التي نعطيها أوامر محددة لتعمل ونقوم ب”خبطها” وإغلاقها وفتحها إن لم تعمل، وكيف أن استمرارية ذلك يجعل شيئاً ما يتآكل من الإنسان ببطء دون أن يعي ويبدأ الجمود يعتريه في تعاملاته عامةً بعد ذلك.

وأحياناً أخرى معاملة الآخرين التي لا تنم دائماً عن التهذيب تجعلنا نقيم جداراً دائماً للحماية للتأكد من التزام الآخرين بحدودهم، حتى يصبح الجدار جزءاً منا.

تكثر الأقوال، فالبعض ينظر للعمل كبيئة ليس للصادقين الذين يتعاملون مع الآخر بإنسانية فيها مكان، وأن هذه مثالية ليس لها مكان في الغاب وأن صاحبها سيؤكل ولن يصل لمكان.
ولأول مرة أرى بهذا الوضوح: ربما كل صراعي مع العمل هو ليس بسبب التخصص أو المهام أو الفوضى، فهذه الأمور قد يكون وقعها ألطف إن لم يكن الشعور الذي يغمرني هو أنني آلة كما الآخرين، وللأسف أن هذا ما أراه حولي حتى في بيئات العمل الأخرى.

أعتقد أنني أرغب في البحث عن هذا الأمر في الفترة القادمة وأحاول إيجاد حلول تمكنني من أنسنة تجربتي هنا حتى يقضي الله أمراً.

جعلنا الله جميعاً من أصحاب الكلام والأثر الطيب، وممن يزرع الأمل في النفوس ولا ينزعه.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s