الثلاثون من تشرين الأول

أفضل دائماً حجز مواعيدي يوم السبت صباحاً، لأنني لا أفضل الركض للمواعيد بعد العمل أو أثناءه خلال الأسبوع والتورط في ازدحام الشوارع.

بعد الذهاب للموعد، أتناول الإفطار في أحد أماكني المفضلة التي لا تزيد عن أربعة، انضم إليها مكان خامسٌ مؤخراً. الأماكن هذه يدخلها نور الشمس صباحاً، تكون هادئة ويرتادها الهادؤون، طعامها طيب نظيف طازج، وتكون غالباً روح صاحبها وتعامله مع موظفيه منعكساً على شعورهم الذي ينعكس بدوره على الشعور بالمكان.

أكمل القراءة في الكتاب ذاته الذي لم أنهِه منذ عدة أشهر، أخطط بقلم الرصاص جزئيات أعتقد أني أود اقتباسها أو العودة إليها مستقبلاً.
أتناول لقمة، ثم أسرح بعيداً وعيناي ثابتتان على قطعة عالقة في باب المكان يحركها هواء التكيف المركزي باستمرار، أتأمل في الدخان المتصاعد من كوب الشاي، في قطرات المياه المتجمعة أعلاه. يمنحني هذا الوقت المستقطع فرصة لانتظام التنفس ونبضات القلب.

هناك علاقةٌ شديدة القرب من قلبي مشاعراً ودماً ظننت أنني أغلقت الباب عليها وعرفت كيف أتعامل معها إلا أن مشاعري هذه الأيام تثبت عكس ذلك. أنظر للسنين الثلاثة الماضية وأشعر وكأنها عامٌ واحد، كيف مضى هذا الوقت سريعاً؟

أن يتغير من لاصقت منذ وجدت على وجه الأرض تغييراً مفاجئاً حاداً، ويتخذ طريقاً يختلف تمامًا عنك فتصبح لا تناسبه ولا تناسب طقوسه ووجهات نظره، ليعتبرك من الماضي الذي لا يحب تذكره، ويغلق الباب في وجهك فجأة دون أي مقدمات. تمر الأيام والليالي والأسابيع، تظن أنها مجرد فترة يخوض فيها صراعاً وسيعود لرؤية الأمور على حقيقتها، أنه سيحن على الأقل كما تفعل أنت، لكن السنين تمضي والمسافة تزداد ويصبح للبعد والجفاء أرضاً صلبة يصعب إعادة تشكيلها.

تلملم نفسك وتحاول الوقوف على قدميك مراراً وتكراراً، أنت لا تستطيع العتب ولا الملامة لأنك تعلم أنه يخوض صراعاته ويبحث عن إجاباته، تترك له المساحة التي طالبك بها عنوة دون أن يقول كلمة واحدة عنها، لكنك تترك بابك مفتوحاً على مصراعيه ليعلم أنك موجود دائماً ومحبتك له لم تتزحزح.
يصيبك اهتزاز ثقة في كل من وما حولك، وفي نفسك.

تحاول المضي قدماً في حياتك، لكنك لا تستطيع محو ذاكرتك، والجزء من ذاكرتك الذي يجمعك به يتجاوز الجزء المتبقي.
تتصفح أحياناً صور الهاتف المحمول ويؤلمك هذا الكم.
اللقاءات لا تزال متكررة، لكنه يؤديها كجزء من واجباته الدينية لا أكثر.

سألتني المُعالجة في أواخر الجلسات: كيف شعرتِ بعد هذا التغيير؟
أخبرتها أنه في النهاية يختار كلٌ منا طريقه مهما بدا غير منطقي للآخر، أفهم أن هذا الاختيار لم يكن متزناً لكنني أعرف تفاصيل تاريخه وتجاربه لذا أتفهم كل هذا.
قالت لي: أود فقط تنبيهك إلى أنك تقومين بتبرير منطقية الخيار، لكنني سألتك عن شعورك،
لم أستطع إكمال الحديث بعدها.

لا تزال هناك مرارة عالقة، لكنني اليوم أحاول قطع الأمل المبني على الماضي وعلى منطقية العلاقات، على الرغم أنها من أقل الأمور منطقية في الحياة.
أحاول أن أوصد هذا الباب في داخلي، وإن كنت سأستمر في فتحه كلما طرقه، أن أراه لما هو عليه الآن، وأن أتعايش مع ألم الفقد المصاحب لأن للفقد أشكالاً عدة، فبالإمكان جداً أن تفقد شخصاً لا يزال حياً وإن كنت لا تستطيع مشاركة ذلك مع الآخرين صراحةً.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s