أجلس في المطار بانتظار رحلة العودة إلى الرياض، أستمتع بشرب كوب قهوة سوداء طيبة من مقهى لم أسمع به مسبقاً في المطار، ترددت قبل شرائه لأن قلة من الأماكن تستخدم بناً ذا جودة ولا تكون قهوتها ذات حموضة عالية، إلا أنني تفاجأت بأنها لا تحتوي على أي حموضة بل على العكس تماماً: وجدته من أفضل أكواب القهوة التي جربتها، وفكرت “يجعل سرّه في أضعف خلقه”.
كانت رحلة سريعة، منذ مدة وأنا أحاول التخطيط لزيارة المدينة إلا أنه في كل مرة كان يحدث ما يجعل ذلك غير ممكناً، كما أنني كنت لا أستطيع أخذ أيام عمل عن بعد أو تقديم إجازة خلال الأربعة أشهر الماضية لأن مديرتي كانت في إجازة.
لذا بعد أسبوع من عودتها قمت بأخذ أسبوعين للعمل عن بعد، كنت كلما أسمع أذاناً أشعر بحركة في قلبي ومعدتي اشتياقاً، سألت من حولي إذا كان هناك من يرغب في المجيء معي، جربت السفر وحيدة مرتين من قبل خارجاً فقط من أجل التجربة، إلا أن السفر برفقة طيبة لا أحتاج للالتصاق معها طوال الوقت لا يزال خياري المفضل.
كل من حولي لا يناسبهم الذهاب هذه الأيام، لذا قررت المجيء وحدي، وتم كل شيء بسرعة وتيسير.
لم أشعر مسبقاً أنه يمكن الشعور بهذا الشوق لمدينة أو مكان، أن أشعر وكأنها كائن حي. في الطريق من المطار كنت أراقب النخيل يتمايل في الواحات الصغيرة وأشعر بدفءٍ لطيف يغمرني، أشعر برغبة في الجلوس أمام الجبال وتأملها عدة ساعات.
جذوري التي أعرف كانت هنا، جذور الدم وجذور القلب. كنت كل مرة أزورها بمقتضى العادة وصلة الرحم، لكنني هذه المرة أزورها رغبةً وشوقاً.
بعد صلاة فجر اليوم التالي أقيمت صلاة الاستسقاء التي لم أكن أعرف أنها ستقام يومها، لم أصلِّ الاستسقاء سابقاً، جئت هنا بحثاً عن السكون والألفة، وأنا في أشد الحاجة ليروى قلبي وتروى روحي، لأحط رحال تخبطي حتى وإن كان ذلك ليومٍ واحد، والرمزية هذه “جبرت” خاطري.
قرأ الإمام في الركعة الأولى “الضحى” وجاءت “ما ودعك ربك وما قلى”، ثم تلى في الركعة الثانية “الشرح” وجاءت “فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً”.
ثم بدأ الإمام خطبة صلاة الاستسقاء ب: “الخلق فقراء إلى الله لا غنى لهم عنه في جميع أحوالهم، يلجؤون إليه في الشدة والرخاء، وهو سبحانه واسعٌ حميد يعطي من سأله بسخاء مديد، يداه مبسوطتان بالإنفاق سحّاء الليل والنهار ويكشف كل كرب شديد، نجّى ذا النون من لجج البحار والماء القفار، مرجوٌّ للعطاء والإحسان، سخر مع سليمان عليه السلام جنوداً من الجن والإنس والطير فهم يوزعون، لا راحم ولا واسع للعبيد سواه، رحم أيوب عليه السلام فكشف عنه الضر وأكرمه بجراد من ذهب، لا ملجأ ولا مفر منه إلا إليه، استغاث به نبينا صلى الله عليه وسلم في بدرٍ فأغاثه بماء وأنزل جنوداً لم يروها، وهو فارج الكربات ومغيث اللهفات، أنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم أمناً بعد خوفٍ في الغار، وهو العالم بالظواهر والنيات، اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس، مستوٍ على عرشه، كبيرٌ كوّن الأكوان ودبّر الأزمان، وأغشى اللّيل على النهار، ملكٌ عظيمٌ يقول للشيء كن فيكون، صمدٌ قهّارٌ “.
شعرت أن قلبي غُسل و”شُطف” بماء جارٍ كما “يشطف” أهل الشام أرض ديارهم.
تأملت في تأخر قدومي كل مرة كنت أخطط الزيارة فيها، وكيف أن الرسائل التي حملتها هذه الرحلة كانت هي ما أحتاج وأتعطّش إليه، معظم الأمور عادت إلى نصابها الحقيقي، تكشفت لي حقائق وجرت على لساني دعوات لم تخطر لي يوماً.
هدأت وسكنت نفسي المضطربة المتخبطة، أشعر أني ارتويت بعد ظمأ طويل لم أكن أدركه، ازدادت رئتاي اتساعاً وأصبحتا تسمح لمزيد من الهواء بالدخول، وكأن أحدهم ربت على كتفاي وأزال عن قلبي ثقلاً كاد أن يصبح جزءاً منه.
صلى الله على ساكنها الحبيب، المظلل بالغمامة، خير الخلائق أجمعين.
الحمدلله على فضله وإحسانه وجزيل عطائه، الحمدلله الذي يخرج الحي من الميت، والذي يحيي الأرض بعد موتها، الحمدلله على كرمه، الحمدلله المبدئ المعيد، الذي يحيي العظام وهي رميم.