السادس والعشرون من رجب

في عالمٍ يعاني ويتحدث الكثير عن مدى طغيان المادة فيه على كل شيءٍ وقيمةٍ أخرى، ومع علمي وفهمي وإدراكي أنه عالمٌ مؤقتٌ وأن الأصل فيه لكل مقيم هو تأقيت إقامته، وأنها الحدث الثابت الوحيد في حياة كل الأحياء والكائنات، إلا أن المعيشة فيه تجعل الانفصال اللا إرادي أو الواعي عن حقيقته وحقيقتنا أمراً شبه محتوم يحتاج إلى الكثير من المقاومة لتعديل عدسات النظارة ورؤية الحقائق بأحجامها وماهيتها الحقيقية.

قد يعدّ الكثيرون هذا الحديث سلبياً أو سوداويّاً، ولكنها حقائق مجردة يفضل البعض عدم مواجهتها لأن الحقائق ثقيلة، وعلى العكس، أجد فيها في المنعطفات الحادّة سلواناً وطمأنينة.

كان نومي ليلة البارحة غريباً مليئاً بالأحلام، استيقظت بعد ساعاتٍ قليلة ورأسي ينبض ألماً، هل ما حدث البارحة لا يزال حقيقياً؟

أشعر وكأن هناك شوالات من الأرز ملقاة عليّ، كل حركة تتطلب الكثير من الجهد. طلبت إجازة ليومٍ واحد، لولا أن لدي العديد من الاجتماعات التي لا تحتمل التأجيل هذا الأسبوع لكنت تقدمت بطلب إجازةٍ فيه لزيارة المدينة. روحي منهكة وأجد أثر سكينة جوار الحبيب عليه الصلاة والسلام بمجرد أن تطأها قدماي، أعلم أن ما أحتاجه الآن هو الانكفاء على الدعاء والسماح للدموع بالخروج أفواجاً والعزلة، والقراءة والكتابة.

مؤخراً، يخطر على ذهني كثيراً فكرة إعادة قراءة السيرة النبوية بعينٍ مختلفة بعد مضي العديد من السنين، دون أن أكون مجردة مستمعة متلقية لإسقاطات الآخر وتجربته ونظرت الشخصية، بل باحثة عن معنى وعن صِلةٍ وفهمٍ للتعامل مع النفس والمعاناة البشرية.
لم أنتبه لتاريخ اليوم، أعلم أن هناك اختلافاً في تاريخ ليلة الإسراء والمعراج، لكن أثناء تصفح انستقرام اليوم، كتب أحدهم مختصراً عن قصة الإسراء والمعراج وشجّع على إعادة قراءة الرحلة. بعد سنين من التلقين الذي أحاطه من الشوائب ما أحاطه، أجد نفسي كالمتعرف حديثاً على كثيرٍ من العلوم والأفهام التي مرت علي مراراً وتكراراً سابقاً.

فتحت مجلد السيرة النبوية لدي وبحثت عن الجزئية المتعلقة بالإسراء والمعراج، وبعدما بدأت في القراءة شعرت أنني انتقلت إلى عالمٍ مختلفٍ تماماً، شعرت أن لي جذراً ثابتاً ممتداً في عالم آخر، عندما عُرج بالحبيب صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وسلّم على الأنبياء، وما رآه من أحوال أهل الجنّة وأحوال أهل النّار، ورؤيته لجبريل عليه السلام على الصورة التي خلقه الله عزّ وجل بها، وانتهاءه إلى سدرة المنتهى.
كانت عدة صفحات لكنها أشبه برحلة طويلة مبهرة، مليئة بالجمال والجلال والهيبة، كنت مأخوذةً بما أقرأ، وكأنّ ماءً بارداً سُكب على النار التي تتوقد داخلي منذ البارحة، وكأنني أتعرف إلى كل هذا لأول مرة، ووجدت في كل ما قرأته سلواناً وتهدئةً وطمئنينةً وتثبيتاً.

تأملت كثيراً في العالم الذي يبدو بعيداً جداً لكنه أكثر حقيقةً وهو الأبدي السرمدي، وفي بشريته صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق وسيدهم ورغم ذلك ناله من الأذى ما لا أتخيل تحمّل بعضه.
أعانني ذلك على إعادة وضع الأمور في نصابها الذي كثيراً ما يختلّ، أن العوض والنتائج والتفضيل الحقيقي ليس على الظاهر والمظاهر والمعايير الموضوعة من قبل بشرٍ آخرين، وأن هذه دار ابتلاء وتمحيص مهما رغب البشر في محاولة الهرب من هذه الحقيقة أو تجميلها أو رفع أصواتٍ أخرى لنسيانها.
وكل ما أرجوه هو أن أُرزق الحكمة والقدرة على الموازنة بين هذين العالمين.

أنهي يومي وأنا أتخيل وصف نهر الكوثر “حافّتاه من ذهب، ومجراه على الدُّر والياقوت، تُربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج”.
وأعيد قراءة حال الجنة مراراً:
“ثمّ أتى على وادٍ فوجد ريحاً باردة طيبة ووجد ريح المسك وسمع صوتاً، فقال: “يا جبريل ما هذه الريح الطيبة وريح المسك؟ وما هذا الصوت؟” قال: هذا صوت الجنة تقول: يا رب ائتني بأهلي وبما وعدتني، فقد كثر عَرفي، وحريري، وسندسي، وإستبرقي، وعَبقري، ولؤلؤي، ومرجاني، وفضّتي، وذهبي، وأباريقي، وفواكهي، وعسلي، وخمري، ولبني، فآتني بما وعدتني، فقال: لك كل مسلم ومسلمة، ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بي وبرسلي، وعمل صالحاً ولم يشرك بي شيئاً، ولم يتخذ من دوني أنداداً، ومن خشيني آمنته، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني جزيته، ومن توكل عليّ كفيته، وأنا الله لا إله إلا أنا لا أخلف الميعاد.. قالت: قد رضيت.”

جعلني الله وإياكم وأحبابنا ووالدينا من أهلها الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s