أجلس يوم الأحد في الليلة الرابعة والعشرين من رمضان بانتظار صلاة الفجر بعد السّحور، يأتيني خبر وفاتها بشكلٍ مفاجئ دون مقدّمات من قبل من قام بنقل الخبر، أجلس لعشرة دقائق في صمتٍ دون ردّة فعل، فهي كانت رحمها الله تصارع المرض عدّة سنوات وأحاول “منطقة” أنها ارتاحت منه. بعدها بدأ سيل من الصّور والأصوات ينهمر من الذّاكرة، وكأن أحدهم قام بتشغيل شريط ڤيديو برتم سريع.
ابتسامتها، أصابعها الرقيقة حين تقلّب صفحات كتاب الدّرس، ترحيبها الذي يشعرني كل مرّة بأني أهم وأجمل شخص في العالم، جلسة الدرس في حديقتها المنزلية التي كنت أشعر خلالها أني منفصلةٌ عن العالم الخارجي، حتى بعد ما تعبت رحمها الله كنت لا أخرج من عندها إلا منتعشة. إحسانها في التعامل مع كل شخص حسب طبيعته، صدرها الذي اتسع لنا باختلافنا، لا أعلم كيف مرت ثمانية عشر عاماً كأنها حلم. بدأت معها وأنا ابنة الثالثة عشر، أثرها ملتصق في حياتي وتكويني وذاكرتي، ربتني صغيرة وعلمتني كبيرة.
أرفع رأسي وأتأمل رسالتها مع مجموعة الرسائل والكروت الورقية التي أحتفظ بها على جدار مكتبي، أهديتها تقويماً قبل عدّة أعوام عليه شكل مجموعات النجوم التي تتكون في السّماء وفقاً للوقت من العام وتحديد الأزمنة والمواسم من خلالها كما كان يستدل بها أهل الجزيرة العربية، كنت قد انقطعت عن الذهاب لها بسبب صراعات كنت أخوضها حينها: “كنتِ رفيقة نجومي طوال عام ١٤٣٨، تلك النّجوم الصامتة والتي تبث في كلّ ليلةٍ ألف حديث وحديث، كانت رحلة صمت ماتعة تعلّمت منها الكثير.. تعلّمت جمال الصّمت وصمت الجمال..كنتِ نعم الرفيقة الصامتة كما كنتِ نعم التلميذة يوماً.. وسأظل أفخر بكِ.. كلّ عامٍ وأنت نجمٌ يتألق”.
يبدأ الفقد في قرص قلبي، أنني لن أراها ولن أسمع صوتها مجدداً في هذه الحياة، أردد في نفسي لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، أشعر بفراغ يخرج منه الهواء في قلبي. كل الأشياء والأحداث يتضائل حجمها، الصلاة عليها ستكون بعد الظّهر، أتقلب في السرير ولا أستطيع النّوم. تأتيني رسالة بأني إذا كنت أرغب في السلام عليها فمن الممكن أن أتجه إلى المسجد في الساعة العاشرة.
أنهض من السرير، أضع ثيابي بشكلٍ آلي تلقائي، أقود سيارتي، كان الجو مغيماً ممطراً كأننا لسنا في صيف الرياض، الطريق شديد الازدحام لكني لا أستطيع أن آبه به، سبحان الله، كيف يعمل الجسد والعقل بشكل تلقائي دون تفكير حين يكون هناك أمرٌ شديدٌ ثقيل الوقع.
أدخل إلى غرفة انتظار التغسيل، أسلم على الأحباب ونعزّي بعضنا بعضاً فيها، نحن الذين لا نرتبط فيها ولا ببعضنا بأي رابطة سوى المحبّة والأخوة في الله، يأتي وقت السّلام، كل ما ينادي أحدهم باسم يشبه اسمها يعتقد عقلي بتلقائية أنها ستأتي وتجيب، كأن العقل عضلةٌ تتمرن على أن الشخص لم يعد في هذا العالم في كل مرة.
أشعر أنّ السّلام دائماً يهدئ نفسي، أنني أسلّم وأنا أعلم أن هذا اللقاء الأخير في هذا العالم، أعرف أنها آخر مرةٍ أرى وألمس من أحب، سبحان الله، كيف ييبس الجسد بعد خروج الرّوح، وكيف يبدو كل شيء كأنه حلم.
كلّما انتقل أحد الأحباب إلى دار الحقّ، أشعر أن هذا العالم والذّاكرة هما أشبه للحلم منهما للواقع. أحاول البحث في ذاكرتي عن كلّ صوتٍ وصورة تثبت أنهم كانوا واقعاً ملموساً، وكل شيءٍ هنا يبدو متناهياً في الصّغر.
تمر الأيّام بشعور غريب، وكأن هذا العالم برمته غريبٌ عليّ، أشعر برغبة ملحّة في الانكباب على التعرّف على تفاصيل العالم الآخر الذي رحلت إليه رحمها الله وسبقها الآخرون إليه، عالم الروح والبرزخ، أشعر أن هذا يساعد في مشاعر الفقد وبأنني أحاول تحسس العالم الذي يقيمون فيه، والعالم الذي سأقيم فيه يوماً ما.
رحمها الله ووسّع مدخلها وجعل قبرها روضةً من رياض الجنّة وجعل روحها من الأرواح المنعّمة، وجمعني بها وبالأحباب في فردوسه الأعلى على سررٍ متقابلين، مع النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، ورحمنا جميعاً إذا صرنا إلى ما صاروا إليه وختم بالصّالحات أعمالنا.
عظم الله أجرك وأحسن الله عزاك ..الله يغفر لها وعمتي ويرحمهم و يرفع درجتهم في الفردوس الأعلى ويرزقك الصبر والسلوان ..
مرّ على وفاة عمتي الحبيبة شهرين و اسبوع ولازال الوضع أقرب للحلم وقلب بنتها راح يتفطر من كثر الفقد والشوق الله يجبرها ويجبرنا على فراق الأحبة
إعجابإعجاب
أجرنا وأجركم، جزاكِ الله خيراً.
آمين، الله يجبرها ويجبركم ويمسح على قلبها برحماته وألطافه ويثبتها يارب
إعجابLiked by 1 person