أبحث في خرائط قوقل عن مكان قريب للعمل فيه لأني أجيد إلهاء نفسي في المنزل، أمرّ صدفةً على الحي الذي يحوي منزلها الذي كنت أزورها فيه كل أسبوع رحمها الله فأشعر بفراغ، ثم أمر على الأماكن التي كنت أرتادها كثيرةً مع الحبيبة الأخرى التي انتقلت إلى قارةٍ بعيدة فتزيد وحشتي.
أمرّ بوحشةٍ تتعلق حتى بتفاصيل حياتي الشخصية، تغيّرت بشكل سريع عاجل، في أشهر قليلة، كأني ركبت قطاراً بسرعة الضوء لا يتوقف، لكن هذا القطار السريع استثار مشاعراً كنت أعتقد أني تصالحت معها وتجاوزتها وتعاملت معها في الجلسات مع الأخصائية، لكني تفاجئت من حدتها، وخفت منها أحياناً كثيرةً أخرى. وما أخوف أن تخاف نفسك.
خفت ووجلت من الصوت الداخلي الذي ارتفع صوته فجأةً، وخفت من العلامات الواضحة الذي كان عقلي يتجاهلها عنوةً لسنوات لأني أحاول التكيف مع أمورٍ لا تطيقها نفسي.
بالطبع لست مع إعطاء النفس على هواها واعتبارها مرجعية، لكن قراءة النفس بشكل سوي وفهمها، ومن ثم البحث عن مرجعية سوية لا تستخدم إسقاطاتها الشخصية على “المفروض” و”المشروع”، وفهم أن هنالك أجزاء من النفس خُلقت مجبولة عليها حتى مع التهذيب والتزكية، ووضعها في مواضع تستثير ضعفها بشكل مستمر ليس من الصحة في شيء، جعلني أغضب من نفسي لأني جئت على هذا الضعف ولم أستمع للصوت المستمر في التنبيه، ووضعت نفسي موضع المنقذ الذي سيغير حياة الآخر للأفضل، واستقتلت لفعل ذلك.
والحقيقة هي أنك تستطيع التواجد للمساعدة بما في سعتك وطاقتك، لكنك لا تستطيع السير في الطريق بدل الآخر ولا خوض رحلته، ولا تستطيع منح الآخر معنى حياته. والخيط بين محاولة تقديم المساعدة وبين أن تُجلس نفسك مكان الآخر الذي ليس بالضرورة مستعداً لخوض الرحلة الثقيلة للبحث عن المعنى والتزكية ومعرفة النفس هو خيطٌ رفيع.
وبعد صراعٍ نفسي لأسابيع، أخبرني أحدهم صدفةً عن كراسة قراءة النفس للدكتور عبدالرحمن ذاكر، قلت في نفسي بدايةً أن الجلسات مع الأخصائية مشابهةٌ لفكرتها، لكنني تعلمت ألا أحكم على الشيء قبل تجربته إذا لم تتضمن احتمالية عدم النفع على ضرر.
بدأت بإجابة الأسئلة في الفصل الأول والثاني والثالث، ولاحظت الفرق الشاسع بينها وبين الجلسات، فهنا أحكي كل شيءٍ لنفسي كتابةً بالترتيب الزمني، وهنا أعرف ما تعريفي الفعلي لنفسي كأنثى دون مجاملة أو محاولة تحسين، أعرف صراعي مع نفسي في هذا الجانب دون محاولة تنميق الكلام لأنه لي، أجلس مع ذاكرتي ونفسي يومياً، أفككها دون أن أنظر إلى الساعة لترقب موعد انتهاء الجلسة ودون أن يكون الكلام الذي يخرج من فمي ثقيلاً لأن المعالجين النفسيين لا يُظهرون التعاطف، لأنني لا أضطر مراراً للدفاع عمن أحب ممن قد يكون قد نالني أذاهم سابقاً جهلاً منهم.
ووجدت إلى حدٍ ما الجذور التي كنت أبحث عنها في رحلة التعرف الحقيقية إلى النفس، تبقى لي الكثير في الكراسة وفي الرحلة ولا أزال في بداية الطريق، لا أعرف علامَ أو إلى ماذا ستنتهي هذه الفترة العجيبة، لكني أعرف يقيناً أنها مرحلةُ مخاضٍ كبيرة.
وكأن السنين الماضية أحد ألعاب الڤيديو قيمز التي تجعلك تواجه المراحل أصعب كلما انتهيت من الأسهل.
أعرف أن النور بعيدٌ جداً حالياً وأحاول المضي في أيامي بأخف وأقل ضرر ممكن، لكني أعرف يقيناً أن النور هناك.
تقول فرقة مومفورد آند سونز في أغنيتها The Cave-الكهف:
“But I will hold on hope
And I won’t let you choke
On the noose around your neck
And I’ll find strength in pain
And I will change my ways
I’ll know my name as it’s called again”
“لكنني سأتمسك بالأمل، ولن أسمح للحبل الذي يلتف حول رقبتك بأن يخنقك، سأجد في الألم قوّة، سأغيّر من طُرُقي وسأعرف اسمي عندما يُنادى مرّةً أخرى”
ما أعد به نفسي، أنني سأحاول إنقاذها، ألا أتوقف عن محاولة التعرف إليها، أن أحاول تزكيتها دون أن أنكر ضعفها وبشريتها وأخنقها، وألا أتركها تنزلق مهما بدا النهوض من السرير أياماً عديدةً كأسوء وأصعب شيءٍ يمكن أن أقوم به، أني سأحاول وإن بدت هذه المحاولات مكررة، وإن سئمت هذه المحاولات وسئمتني، وإن ملأت قلبي الوحشة واشتدت، أنني سأتكئ دائماً على دعائي وأتوكل وأثق بالواسع الكريم لا بنفسي ولا بغيري، الذي علم بوجودي قبل وجودي، الذي خلق نفسي وسواها، ومن هو أرحم بي من أمي الحبيبة ومن نفسي، حبيب كل غريب وأنيس كل كئيب.
لا أوحش الله قلوبكم، وملأها أُنساً وسروراً وبهجًة.
أحب الصمود الذي يتجلى في النصوص، وبغض النظر عن مداه في واقعنا إلا أنه سيبقى ذاكرة شاهرة سبابتها بوجه يئسنا فيما بعد..
أنت حلوة كالعادة؛ قد تكتبين أحيانًا من المتاهة لكنك تعرفين غالبًا من أنت وتريدين الخلاص وتسعين وهذه وحدها نقاط في صالحك وتجعل مشاعرك المعصورة من كمّ الضيق لآلئ تلمع في عيوننا نحن القراء. واعتقد ان هذا الجواب لتساؤلي حول “لماذا أقرأ مذكراتك الحزينة والثائرة دومًا على الظِلال”، واصلي طريقك أو كما يقول خالد دوشي في بيت حلو:
إني جميل في ثياب حرائقي
أسعى فيسعى بي بريق ثيابي
🌸
إعجابLiked by 1 person
شكراً للطفك، الله يحلي أيامك يارب.
أعتقد أني سأعود دوماً لقراءة تعليقك، ربما لم أعي سابقاً أنها “مذكرات حزينة وثائرة على الظلال”، لكنني فعلاً قد أميل لاستخدام الكتابة كوسيلةٍ للتعامل والتفاهم مع أحاديث النفس وأفكارها التي قد لا يكون أغلبها مشرقاً..
إعجابLiked by 1 person