
أجلس هنا بعد نومٍ طويل مليءٍ بالأحلام التي تدور حول نسيان شيءٍ ما في أحد المطارات، في هدوءٍ تام على مكتبي، .يشبه هدوء ما بعد العاصفة لكنها عاصفة لذيذة ومحببة للنفس، فقد اعتدت الأيام الماضية الاستيقاظ على أصوات أحاديث الصباح المتبادلة واحتكاك أدوات تناول الطعام بالأطباق.
أجلس هنا بأقدام مليئة بقرصات الناموس وتنتظرني في حقيبة السفر ملابس مليئة بالتراب الأبيض وأحذية ملطخة بالطين الأحمر.
لو أخبرني أحدهم أنني سأسافر طوعاً واختياراً مع مجموعة لا أعرفها إلى بلاد لم أزرها مسبقاً سأتوقع أنه غالباً يلقي نكتة سوداء عن طبيعة شخصيتي التي أعرفها منذ بدأ وعيي بنفسي.
منذ عدة أشهر وأنا أعاصر ظرفاً خانقاً، كانت لدي رغبة ملحة في تخفيف وقعه أو نسيانه مؤقتاً، وحيث أن كل من حولي لا يرغب أو لا يستطيع السفر حالياً، بدأت بالبحث عن مجموعة نسائية يمكن السفر معها، مجموعة ليس لها سمتٌ محدد سائد أو لأفرادها مظهرٌ معين، فلم أكن أرغب بالسفر وحدي تماماً لاعتبارات عدة.
وخلال هذه الرحلة التي تم كل شيء فيها في اللحظة الأخيرة، رأيت وعرفت من نفسي جانباً مختلفاً جديداً، خفت من نفسي أحياناً، وتقبلتها أكثر أحياناً أخرى، وتعرفت إلى بعض الحقائق عنها.
فالرقابة من الآخر الذي يعرفك أحياناً عدة لا تكون رقابةً ناشئةً عن معتقد محدد، بل مجرد فكرته المسبقة عنك المؤطرة لشخصيتك وردود فعلك وتفاعلاتك التي تستغرب أي خروج عن هذا الإطار، تؤدي كثيراً إلى البقاء داخله حتى وإن لم يعد ذلك مريحاً لك.
ثم هناك جزءٌ متعلق بتفاعل الآخر في المجموعة بعيداً عن كل صناديقه، والذي ينعكس بدوره عليك لتصبح أكثر انطلاقاً لتتفاعل مع المحيط وفقاً لطبيعتك الحقيقية لا الصناديق التي وضعت نفسك فيها أو وضِعت فيها لأسبابٍ مختلفة متعددة.
عرفت جزءاً من نفسي وأحببته، وكنت لسنين طويلة أتصارع مع رفضي المستمر الدائم لها، “والله مش بطّالة”.
هناك شيءٌ ما غير معروف الكنه أو التسمية يشرق في النفس عندما يحصل ذلك، أشبه بالمكان المغلق المعتم الخالي من أي إضاءة أو نسمة هواء لفترة طويلة، عندما يتم البدء في تكسير جدرانه لبناء نوافذ كبيرة يدخل منها الشمس والهواء، يتغير المكان كلياً ليستنكره صاحبه بعد ذلك فلا يتعرف إليه سريعاً، لكنه استنكار محمودٌ إن صح التعبير.
أثمن مافي هذه الرحلة، هي أنني عدت منها بشعورٍ مختلف اتجاه واقعي ونفسي، وشعرت أن هناك شيئاً طيباً يشق طريقه في دواخلي، وأن نظرتي للإمكانيات أصبحت أكثر اتساعاً، وكأنني كنت أستخدم نظاماً قديماً للحاسب الآلي ثم قمت بتحديثه لتتغير الواجهة والخيارات وطريقة عرضها.
لم أكن أتخيل يوماً أنني قد أذهب في رحلة وحدي مع مجموعة لا أعرفها دون معارضةٍ صارمةٍ من والدتي، لكن الغريب في هذه الرحلة الأولى من نوعها أنها لم تعارض أبداً بل ضحكت مستغربةً من الوجهة المختلفة ومن الفكرة ككل لأنها لا تشبه أي شيء قد أقوم به أو أقدم عليه، أنا التي لاتألف الآخر إلا بعد مدة طويلة ولا أتخذ خطوات إلا بعد بحثٍ مطوّل دقيق عميق.
قد يكون حديث نفسي هذا متأثراً ومأخوذاً بمجموعة التجارب الجديدة وبالهواء والطبيعة البكر، لكني أتعامل مع هذا كله بفضول لما يمكن أن يتغير نتيجة لكل هذه المعادلة.
انتصفت تقريباً في الكتاب الذي أقرأه حالياً لدونالد ميلر (أن تمتلك تنّيناً- تأملات في النشأة دون أب) ووصلت إلى مقطع يشبه وصف الحال الذي أمر فيه حاليا، عندما تمر بلحظة إدراك يصعب وصف تفاصيلها بدقة ترى حينها نفسك بمنظورٍ مختلفٍ تماماً لما كنت عليه قبل أيام معدودة، يقول: “أدركت في ذلك اليوم أن سبب دفن رأسي المستمر في التراب لا يعود إلى ذلك الرجل، لا أقوم بدفع الضرائب لأنني كنت مقتنعاً أن الحياة عبارة عن لعبة لم تتم دعوتي للعبها، وأن ذلك يتعلق بمشاكلي مع الشعور بالانتماء. لم أكن أعلم أن بإمكاني اللعب ولم أكن أعلم أن بإمكاني النجاح. كنت أعرف ذلك منطقياً، تدل الحقائق على أن بمقدوري المشاركة ويشهد وجود لحمٍ على هيكلي العظمي على أنني لا زلت حياً. لكنني أتحدث عن إدراكٍ عميقٍ جداً بأنه تم منحي الحياة كهدية، تحمل نوعاً من التحدي وتعد معركة بشكلٍ أو بآخر، بل مغامرة.”
ساعدني هذا في فهم أوضح للشعور الغامر الذي أمر به، وهو أنني بدأت في أخذ دور الممثل الرئيسي في قصتي بعدما كان الدور الثانوي هو ما أجيده وأعرفه، قد يكون الحدث بسيطاً في ظاهره لكنه يحوي في باطنه تحولاتٍ عديدة أعتقد أنها ستتكشف مع الأيام.
تأملت المحيط كثيراً، تأملت انعكاسات أشعة الشمس عليه نهاراً، واختلاطه مع ظلمة السماء ليلاً وهيبة أصوات موجه، وفي أنه سبحانه وحده من علمه بباطنه كعلمه بظاهره مما لا يعلمه جنس كائنٍ ولا بشر، وفي أن كل أنسٍ يخلو منه مصيره إلى زوالٍ وفناء، وكل اتكاءٍ على غيره ضعف، والضعف والذل بين يديه قوة، والأنس به باقٍ وإن خلا العالم من كل مخلوق.
آنسني الله وإياكم دائماً بذكره ومحبته ومعرفته وأحاطنا بخيار خلقه وجعلنا منهم.