“الله يستر عليكِ”

سابقاً عندما كنت أصغر سناً، كنت أستاء عندما يدعو لي أحد موظفي الجهات المختلفة التي كنت أتردّد عليها أثناء عملي في مجال المحاماة بالسّتر بدل الدعاء بالخير أو بأي شيءٍ آخر، لأنني كنت أترجم ذلك بأني مخلوقٌ “منكشف” غير مرحّب به ووجوده نشازٌ في الفضاء العام يجب عليه الاختباء دوماً وراء ساتر. أعلم أن هذا مبنيٌ على عدّة أحداث أخرى صغرى وكبرى وتعاملات ومعاملةٍ أدّت إلى هذا الفهم.

لكن الآن، بعد ما مررت عليه من التجارب ومرّ علي، عاصرتُ وعُصِرت وعَصَرت، أرى الحياة الدّنيا بنظرةٍ أوسع، أعلم أن تعامل الآخر هو نتاج لنشأةٍ وظروف قد لا أستطيع تخيّلها، وأحاول ترجمة تصرفات وكلام الآخرين بشكلٍ غير شخصي، وأن تكون الرّحمة هي أساس تعاملي وظني وردود فعلي، وذلك رحمةً لنفسي من الانفعال الضّار، وللآخر لمحدودية علمي بحقيقة ما أدى لأن يكون على ما هو عليه، ولأننا جميعاً هنا بشكلٍ مؤقت.

تحكي لي والدتي أنها عندما كانت طفلة ويتعرض أحدهم لوالدتها -رحمها الله التي كانت كثيرة الصمت- بشكلٍ غير لطيف، كانت تنفعل وتسألها عن سبب صمتها وعدم الانفعال على الطرف الآخر، فكانت تشير لها إلى السماء وتخبرها أن هناك من يرى كل شيء، فتستطرد والدتي الآن: “ما كنت أفهم قصدها وقتها”.

وأنا أيضاً، الآن أفهم.

أميل لتصوّر أنني من فئة أولئك الذين يشعرون بالآخر، الحزين الذي يحاول أن تكون ابتسامته أكثر إشراقاً من العادة أو المتألم الذي يخفي ذلك بكثرة الحديث وتحويل دفّته باستمرار أو ذلك يمر في أوقات غير سهلة ولكنه يحاول أن يبدو بأفضل مظهر، فتشي بذلك نظرات العين عندما يصمت الكلام قليلاً وينتهي الضحك أو الابتسام، وإلى انحناء الظهر والأكتاف وإن كان طفيفاً، وإلى خلجات الوجه وتعابير اليدين التي تفلت دون إرادةٍ أحياناً.

لذا كنت دائماً في المقابل على مظنّة من أن الآخرين قادرين على اختراق جمودي الخارجي. حتى حصلت عدة مواقف متزامنةٍ مؤخراً، ليخبرني أحد من عرفت لأيامٍ فقط أنه على الرغم من أنها تستطيع قراءة الآخرين دائماً إلا أنها لم تستطع أن تقرر ما إذا كنت قد انزعجت من موقف قد حصل أم أنني لم أنزعج بتاتاً، ثم يخبرني شخصٌ آخر قريب أنه لم يتخيل أنني أمر في ظرفٍ بثقل الظرف الذي أمر به، وأخيراً في العمل قبل اجتماعٍ كان القلق حينها قد بلغ مني مبلغه لعلمي بأنه سيكون مليئاً بكل ما يجب استجلاب الصّبر من أجله، لتأتي زميلةٌ فتقول لي حينها: “إذا شفتك أحس إن كل شي تحت السيطرة”.

الآن أفهم أن هذا من ستر الله عليّ، أنه ستر ويستر ضعفي وتخبطي وصراعاتي، فقد أكون على بعد خطواتٍ من اتخاذ قرارٍ مصيري، وقد تتعرض مسلماتي لزلازل إلا أنه منّ عليّ بألّا أخلع عباءة الجَلَد إلا عند مناجاته، وأن تجارب السنين الماضية على الرغم من أن ألمها لا يزال حاضراً إلا أنه ستر علي بأن كانت وسيلةً لقطع رجاء إظهار هذا الضعف لغيره أو رغبة أن يلتفت أحدهم للألم، لأن الأغلب يمر في رحلته الخاصة. فالكلّ قاصرٌ ناقصٌ ولا كمال إلا له سبحانه، والكلّ يحتاج إلى شرحٍ وهو سبحانه الباطن لديه كالظاهر، والكلّ يحتاج إفهاماً للحوائج وهو سبحانه يعلم من حاجاتي ما لا أعلم ولا أحيط.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s