تدوينةٌ لا تناسب يومَ الخميس.

أحاول الاستسلام لغفوةٍ قصيرة بعد صلاة الفجر، من شروطها أن أقوم بفتح الستائر لكي تدخل أشعة الشمس عندما تشرق بشكلٍ كامل، وأن تكون على الأريكة وأن أكون لا أزال مرتديةً رداء الصلاة، أخادع نفسي بأن ذلك سيمنعني من الاستسلام لنومٍ عميق وبالتالي سيكون الاستيقاظ أسهل، إلا أن هذه الطريقة بالطبع تتسبب في نومٍ أعمق.

لكنني أعيد الكرة كل يومٍ تقريباً، وكأنني إذا لم أعد للنوم على السرير فلن يكون ذلك نوماً حقيقياً.

منذ عدة أسابيع ودون تخطيط مسبق وللتقليل من تراكم المهام بمختلف أنواعها، قررت بيني وبين نفسي أنني لن أستخدم وسائل التواصل الاجتماعي حتى أنتهي من جميع المهام سواءً كانت متعلقة بالعمل أو المنزل أو القراءة أو البحث أو الرياضة، ووجدت أن اليوم الأول انتهى تقريباً وأنا لم أنتهِ من جزئية القراءة التي يفترض أن أنهيها.

ثم فكّرت أنها ستكون فكرةً جيّدة أن أحاول عدم الدخول إليها أو استخدامها لأطول فترةً ممكنة، خاصةً أن المعطيات الحالية لسببٍ أو لآخر أشعر أنها تدفعني لعزلةٍ من نوعٍ معين، عزلةٍ تشبه “تعزيل” المنزل ابتداءً من استخراج أدوات المطبخ من الدواليب لتنظيفها وانتهاءً بتلميع النّجف والجدران.

فالصديقة المقربة التي كنت أراها عدة مرات في الأسبوع لم تعد مقيمةً هنا، والأخرى أصبحت المسافة بين طريقينا شاسعةً مترامية الأطراف، لا تزال أبوابنا وقلوبنا مفتوحةً لبعضنا البعض، لكن منطلقاتنا لم تعد متشابهة، وحبيبةٌ قريبةٌ أثيرة رحلت للدار الآخرة في رمضان، وعلاقةٌ أخرى ذات دورٍ رئيسي تقترب من آخرِ فصولها.

وبطبيعة الوضع الحالي وعملي من المنزل حتى تنتهي أعمال الإصلاح في مقر العمل، أقضي معظم اليوم لوحدي. شعرت أن هذه فرصة قد لا تتكرر بعد الآن، وبما أنني على وشك اتخاذ قراراتٍ مصيرية، فكرت لمَ لا أستغل هذه الفرصة ليكون كل شيءٍ على السطح دون أي مؤثرات خارجية.

اليوم الثاني كان أشد صعوبةً. عندما قرأت وسمعت تجارب الآخرين في ابتعادهم عن وسائل التواصل الاجتماعي لفترة، تكرر شعور بضعٍ منهم بغضبٍ غير مبررٍ في الأيام التي تلي اليوم الأول، ثم تبدأ المشاعر بالاستقرار بعد الأسبوع الأول تقريباً.

أما بالنسبة لتجربتي، فقد ظهر على السّطح حزنٌ غريب ممتد، امتداد صحراءٍ شاسعة، لا أعلم أين كان مختبئاً فحجمه قطعاً يفوق أي مكانٍ مناسبٍ للاختباء، لكن لأنه لا مهرَب منه، تنبهت أن وسيلة تخفيف الشعور الأولى التي لا تحتاج إلى تفكير كانت حمل الهاتف النقال وتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، فأصوات الأفكار فيه تُخفِض هذا الصوت في رأسي ونفسي وتجعله قابلاً “للهضم”. أما دون ذلك فالصّوت مرتفعٌ وحادٌ جداً.

كنت أستمع لأحد اللقاءات أثناء المشي اليومي، وكان في حديث المُلقي ما مفاده أنه قبل تزكية الإنسان لعلاقته بنفسه وبالآخر، عليه أن يعمل على تزكية علاقتها بالله أولاً، فقد يوجّه الأغلب اعتراضاتهم وأسئلتهم وغضبهم على الآخرين في حياتهم، بينما هي في حقيقتها وجذرها أسئلة متعلقة بأساس وجود الإنسان، كَ”لِمَ ولدت لهذين الأبوين؟ لِمَ اختير لي أن أكون أنثى؟ لِمَ حصل لي ما حصل في عمرٍ وقوّةٍ لم أملك فيهما دفع ذلك عنّي وحدّد ذلك السمة الغالبة في نفسي وحياتي؟وو…”، فوجدت لذلك في نفسي وقعاً مهيباً، وكأن أحدهم أضاء منطقةً في عقلي لم يصلها النور مسبقاً.

فعندما أعطى مثالاً على السؤال المتعلق ب”لِمَ خُلِقتُ أنثى”، وجدته وقع في نفسي موقعاً أصاب عدة أمورٍ رئيسية، وكأنه السؤال المخبئ الذي كنت لا أجرؤ على النظر إليه أو اعتباره موجوداً. وبدأت رحلةً طويلةً لا أزال في بدايتها من محاولة فهم حقيقتي كأنثى، والمقام الذي أقامني الله فيه عندما خُلِقت أنثى، بعيداً عن المقام الذي أقامني فيه المجتمع والإعلام والعرف الذي أُخضِعت له الأحكام الشرعية لا العكس، بعيداً عن تجربتي الشخصية التي أدّت إلى أن أكون ردة فعلٍ طويلٍ بطول سنيني على هذه الأرض، ردة فعلٍ غاضب حانق.

من أنا كأنثى خارج تلك التشوهات جميعها؟ وما هي طبيعتي دون ذلك؟ ماهي حقيقة ذلك دون تلك الأصوات المرتفعة من الجانبين التي تخلّ بصلة المرء بخالقه ثم بنفسه؟

وكيف أصل لبرّ الأمان في ذلك الفهم دون أن يكون لنفسي البشرية التي فيها من الضعف ما فيها ورغباتي الغَلبة على الحقيقة، وما هي الحقيقة دون تشويهات الميول الشخصية التي نالت منها ما نالت، ولكن دون أن تتحول الحقيقة من وجهٍ آخر إلى أداةٍ لتلبية نفوسٍ بشرية أخرى فيها من الشوائب ما فيها.

بدأت أحاول العودة لتعريف الأساسيات وتحسس الجذور وقرائتها وفهمها، ووضع أسئلتي على الجانب لأسأل من أثق بأنهم أكثر الموجودين اتزاناً في هذا الجانب دون إسقاطاتٍ للتفضيلات والميول الشخصية. وفهمت أهمية السياق الكامل لكل شيء، فانتزاع الأمور من سياقاتها بشكل مستمرً أدى ويؤدي إلى تشوهٍ وتشوهاتٍ مضادة. السياق رئيسي في فهم المعاني والمقاصد، وانتزاع الأمور من سياقاتها بشكلٍ جزئي لخدمةٍ ميلٍ أو آخر يؤدي إلى إخلالٍ مستمر بالاتزان.

كل السياقات مهمة ولها آثارها، حتى سياقي الشخصي، لا شيء منتزعٌ ولا نشاز.

عُدت إلى الخبزِ والطّهي، بدأت أعرف الأمور التي كنت أتهرب منها، الأمور التي كنت ألتفت لمختلف الوسائل لتشبع حاجاتي إليها.

وأعتقد أني كنت من أواخر الواصلين لأعراض الڤايروس الذي لم يعد مستجداً، أُصِبت به قبل أسبوع تقريباً، وما دعاني للشك هي آلامٌ جسدية غير مألوفة، لكن بفضل الله كانت الأعراض العامة كأعراض بردٍ موسميّ معتاد.

أثناء فترة العزل والبقاء في المنزل، كنت واقفةً في المطبخ لأعدّ بعض الفلافل المخبوزة المنزلية، تلقّيت اتصالاً من أختي، سألتني إذا ما كنت واقفةً وطلبت مني الجلوس. أخبرتني أن أختنا الكبرى -وهي في دولةٍ أخرى لأغراض العمل تبعد عنا سبعة ساعات بالطائرة- قد أُصيبت بعرضٍ صحيٍّ طارئ أُدخلت على إثره للمستشفى، وأنها ستحتاج إلى إعادة تأهيلٍ لاستعادة النطق والحركة، ولا يستطيعون تحديد مدى التحسن الممكن ولا سرعة الاستجابة.

يكون تلقي الخبر في بدايته ذا صوتٍ خافت، أغلق السماعة وأذهب لإكمال مهامي باعتيادية، ثم يبدأ صوته بالارتفاع شيئاً فشيئاً، ويبدأ كل شيءٍ بالتضاؤل. كل شيءٍ يبدو صغيراً شديد التفاهة رمادياً. تتراءى إلى ذهني صورتها وهي وحيدة في بلادٍ أخرى تحاول التواصل مع الإسعاف لشعورها بأعراضٍ غريبة، ثم صورتها الآن وهي ملقاة لا تستطيع الحديث ولا الحراك، ونصف وجهها خالٍ من أي تعبير. ثم أشعر بهذه المسافة تتضاعف وبالبعد يعتصر جوارحي ويصبح التنفس صعباً.

أشعر بكل ما حولي يتحوّل إلى اللون الرمادي، كنا قبل عدة أيام نتراسل محاولةً لتنسيق موعد لأنضم إليها عدة أيام، كيف يتغير كل شيء بشكل سريع، وكيف يصبح من يلوّن جزءاً كبيراً مني ومن جودي ونظرتي للأشياء يحتاج إلى إعادة تعلّم النطق والكلام، هي التي علمتني معظمه.

أسمع كل شيءٍ يتفتت بصمتٍ تحت ثقل وجودي، ويخيفني شعوري بأني توقفت عن القدرة على الشعورِ فجأةً، سيّئه وحسنه. يخيفني ذلك أكثر من الألم، فاللاشعور أجوفٌ فارغٌ أصمّ تبتعد فيه عن كل شيء وتشعر أن كل حركة وكلمة تحتاج إلى مقاومة وإلى مجاهدة الثقل الذي يجرّ قدميك.

أستطيع أن أقول أن هذا العام يحوي أعواماً عِجافاً فيه، تمرّ الأيام فيه على جميع مفاصلي السليمة وتطرقها بلا هوادة، تقلبت أحوال من أحب فيه وفقدت أحباباً وابتعدت عن آخرين قسراً، ويبدو استيقاظي اليومي للعمل كأسخف شيءٍ على وجه البسيطة، أن أؤدي مهامي بنفس الهدوء كثقلٍ يكاد يجهز على أنفاسي، أقاوم الرغبة في انتزاع نفسي من ذلك جله والاستسلام التام لهذه الأحداث الثقال مقاومة الغريق الذي يتمسك بقشةٍ بكل ما أوتِيَ من قوةٍ بأظافره وأسنانه وأطرافه.

أحاول بكل ما بقيَ أن أتمسك بالأمل، لا لأن ذلك يحوي أي منطق بشري بناءً على المعطيات، بل كلما شعرت بأن نفسي بدأت بالانزلاق ينتشلني صوتٌ يردّد “لا تيأسوا من روح الله”، لأن من خلق النفس هذه وسوّاها العالم بكل ذرّة ألم تمرّ بها أمر بعدم اليأس من روحه سبحانه. والعام هذا لا يصحّ إلا أن يكون محاولةً للتخلية، أن أخلّي نفسي من مرادي منها وأفهم مراده سبحانه منها، وأن أنجو بجَلَدٍ وجِلدٍ قاسٍ دون أن يصل ذلك لقلبي، بل يزيده محبّةً وليناً وصِدقاً وحكمةً ومعرفةً صافية.

“ستجيءُ سبعٌ مرةٌ فَلتَخزِنوا من حكمةِ الوَجَعِ المصابرِ سُكّراً، سبعٌ عجافٌ فاضبطوا أنفاسَكم من بعدها التاريخُ يرجعُ أخضراً”

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s