أيامٌ أستيقظ فيها وأشعر بأني قادرة على التعايش مع مشاعر الفقد المستمرة التي أتمنى أن تخفّف الأيام حدتها، أشعر بنشاطٍ وأعدّ فطوراً طيّباً وأنجز مهامي دون أن أجرّ أقدامي لذلك. تكون هناكَ سَكينةٌ في نفسي تمكنني من الاتزان بين الألم والعمل.
وأيامٌ أخرى يفاجئني فيها شعورٌ حادٌّ بالحنين والذهول من تغير وتبدّل الأحوال المفاجئ، وتمر عليّ أحداث هذا العام ذهاباً وإياباً كآلةٍ معطوبة لا تستطيع الوصول إلى وجهتها. أمسك بالكوب لأملئه بالماء الحار، فيهبّ علي شعورٌ غير مريح خانق، اشتريت هذا الكوب قبل تسعة أشهر تقريباً، كنت في حالٍ غير الحال، وكانت لدي رغبات وآمالٌ، أشعر بضيقٍ لشعوري بأني شخصٌ مختلفٌ تماماً، أحاول أن أعيد تمسكي بأي رغبة كانت لدي ولا أتمكن من ذلك.
“فكأنها وكأنهم أحلامُ”، أجلس في اجتماعٍ متعلق بالاستراتيجيات والأهداف، كأن من يتحدثون ينتمون إلى عالمٍ مختلفٍ ومنفصلٍ تماماً عن عالمي، وكل ما يتفوّهون به يبدو فارغاً من المعنى والحقيقة والجديّة، كل شيءٍ يبدو مُفتعلاً. فكل ما هو حقيقي يقبع خارج هذه العلب، أو هكذا أشعر.
لديّ كما لدى معظم البشر عدّة أعمدةٍ من البشر كانوا متكّاً عندما تصبح الريح شديدة، وظلاً لطيفاً عندما تصبح الحرارة حادّة، فقدت أربعة منهم لأسباب مختلفة هذا العام، ولا أشعر أني قادرةٌ على استعادة توازني، أحدها فقدٌ أعيد استيعابه يومياً كلما حاولت محادثتها وهي بوعيٍ وقدراتٍ تختلف تماماً عمّا كانت عنه قبل عدة أسابيع، أحاول تقبّل أنها شخصٌ مختلف عما كانت عنه قبل الحادثة، ويتركني ذلك مع شعورٍ ممتد بالاستيحاش والشوق.
أميل للصمت حتى في حضرة الآخر الذي كنت أميل للتحدث معه، أجد رغبةً في التواجد في الأماكن المفتوحة فقط والنظر إلى خلق الله من غير البشر، ميلاً للقراءة والكتابة والعزلة. أحاول تلمّس مواضع الألفة لأن الاغتراب عن النفس والآخر والحياة يغمرني، ولا أكاد أجدها إلا في المناجاة المستمرة.
لن أقول أثقلتني الخسائر ولا الهزائم وإن كان يثقلُ علي حتى حمل جِلدي أياماً كثيرة، لأني أكرر إعادة تعريف الخسائر على نفسي أملاً في تغيير انطباع الأحداث عليها، فالآلام لا تعني الخسارة، وكلّ ما تسبّب في تقريبي إلى فهم حقيقة الدنيا وبأن تكون لي أورادٌ وأذكارٌ تحفظ عليّ نفسي وعقلي لم أتمسّك بها مسبقاً لا يمكن أن يكون باطنه إلا رحمة.
لكنّي أقول أن الألم شديد والأيام صعبةٌ ثقيلةٌ تكاد تجهز على أي شيءٍ طيّب في نفسي، أصبحت أتوجس من الاستيقاظ لأني أكون في صراع مستمرٍ حتى لا أفقد اتزاني تماماً، كنت أعتقد أني أكثر جَلداً ومعرفةً و”مدقدقة”، لكني لستُ سوى مخلوقٍ ضعيف لا يملك من أمر نفسه ولا الآخرين شيء.
أحاول تلمّس الطريق أمامي لكنّي لستُ أقوى على ذلك، أملي وسؤلي هو أن يغسل الرحمن سبحانه بالرّضا نفسي وقلبي، وأن ينزل عليهما سكينةً لا يهزها شيء، كلّما ضاقت عليّ نفسي أضع يدي على قلبي وأقرأ السبعة فواتح.
أذكّر نفسي أن كل ما حصل مجرّد أسباب، وأن ما أمرّ به مقدّرٌ عليّ ولي منذ أن كنت نطفةً، وأرجو ألا أتجاوز هذا إلا بقلبٍ أكثر رقّة ورحمةً ورضى لا قسوةً وجفاء.
“إلهي: كلُّ ما أقوله فأنت فوقه، وكلُّ ما أُضمِرُه فأنت أعلى منه، فالقولُ لا يأتي على حقك في نعمتك، والضمير لا يحيط بكُنْهك، وكيف نقدر على شيء من ذلك، وقد ملكتنا في الأول حين خلقتنا، وقدرت علينا في الثاني حين صرفتنا؟ فالقول وإن كان فيك فهو منك، والخاطر وإن كان من أجلك فهو لك، من الجهل أن أصفك بغير ما وصفتَ به نفسك، ومن سُوء الأدب أن أعرِّفَك بغير ما عرَّفَتني به حقيقتُك، ومن الجُرأة أن أعترض على حُكمك وإن ساءني، ومن الخِذْلان أن أظُنَّ أن تدبيري لنفسي أصلحُ من تدبيرك، كيف يكونُ الظنُّ صواباً والعجز مني ظاهرٌ والقدرة منك شائعة ؟ هيهات: أسلمتُ لك وجهي سائلاً رِفْدَك، وأضرعت لك خدي طالباً فضل ما عندك، وهجرتُ كل من ثناني إلى غيركُ، وكذَّبتُ كل من أيأسني من خيرك”
-أبو حيان التوحيدي – كتاب: تسبيحٌ ومناجاةٌ وثناء على مَلِكِ الأرض والسّماء