فبراير-٢٠٢٣
في حصص العلاج الطبيعي والوظيفي اليومية في مركز إعادة التأهيل، كنت أقضي معظم وقتي في تأمّل المرضى ومرافقيهم، ومع مرور الأيام أصبح هناك نوعٌ من المعرفة المألوفة دون أي تواصلٍ أحياناً كثيرة، أستقرئ قصصهم وعلاقاتهم وحالاتهم.
أحدهم لا يتجاوز الثالثة عشرة من عمره وهو أصغر الموجودين في ذلك الجناح، يرافقه والده الذي لا يبدو صغيراً في السن وتبدو معاني الرحمة ظاهرة وواضحة في نظراته وتعامله معه وحنوه عليه، كانت اعتراضاته المتكررة على التمارين وتجاوب المُعالج مع تلك الاعتراضات بمناكفته تضفي بعض الحراك على قاعة التمارين الجامدة وترسم ابتسامات على أوجه الموجودين.
معظم التمارين التي يتوجب على الابن تكرارها تتسبب في ألمه إلا أنها ضرورية ليتمكن من استعادة قدرته على المشي بعد العملية التي أجراها، فكان المعالج والأب يتجاوبان مع شكواه منها أحياناً نادرة، وفي الغالب يقوم الأب بإسكاته بابتسامة: “أسسس، سوي اللي يقلك عليه ولا تتشكّى”، ويجيبه المُعالج أحياناً أخرى: “كل شي في بدايته مؤلم، بس لو ما أتألمت الآن مارح تقدر تمشي كويس، تبغى تمشي نص نص ولا ترجع تمشي كويس؟”
وأفكر بيني وبين نفسي: أحتاج لمعرفة متى أُسكت نفسي عن تذمّرها و”عنفصتها” ومتى أعرف أن ذلك سيؤدي بها إلى مواطن ضعفٍ تأتي على جبلّتها وتكوينها فتهوي بها.
وبشكلٍ عام كل ما كنت أفعله المدّة الماضية هي إسكاتها، لأنني إن استمعت إليها لرفعت يدايَ عن كل شيء ولم أقاوم للنهوض من السرير يومياً.
ينبع هذا الشعور بالغرق أنني قبل عدة أشهر وقبل الحادثة بأيام كنت على وشك اتخاذ قرارٍ مصيري سيغير شكل حياتي، أمضيت سنواتٍ في محاولة التأكد من صحته، وعندما حصل ما حصل بقيَ الوضع معلقاً لأن الوقت لا يناسب اتخاذ مثل هذا القرار بتاتاً فنتائجه لن تؤثّر علي وحدي. أصبح تعاملي مع كل ما حصل ليس ثقيلاً بسبب ما حصل فحسب، بل لأن قدمايَ ليستا ثابتتين على أرضٍ واحدة: بل قدمٌ تخطّت بوابة الخروج وقدمٌ لا تزال داخلها، وبالتالي أصبح الأصل في التعامل مع كل المُعطيات هي عدم الراحة، لأن الوضع حتى في حالة الثبات ومحاولة التقاط الأنفاس غير مريح.
في كلّ مرةٍ أكون فيها على وشك الجزم خلال الأعوام الماضية يحصل ما يعرّض اتخاذ القرار للشلل تماماً، استخارات وصلواتٍ ودعوات، أعلم قطعاً أن علمني وفهمي قاصرين، وأن ما أعتقد أنه أفضلٍ خيارٍ لي قد يكون الأسوء، والعكس كذلك. الإنسان كائن معقد، وعندما تمر تجاربي ونشأتي التي حوت على أضدادٍ لا تلتقي ولا تتقاطع مع المحيط العام والخاص على ذهني، أفكر ما إن كنت سأتمكن من إيجاد ما أركن إليه في هذا العالم أساساً.
أجلس على الكرسي إلى مكتبي ويرتفع صوتٌ شديد اللؤم: ها أنتِ تعودين إلى نقطة شبيهةٍ بنقطة الصفر تلك، ما الذي نفعتك به محاولاتك سوى تأكدك من أن كل شيء يسوقك إلى نفسِ النتيجة؟ ألا تستطيعين النظر إلى بداية القصة وامتدادها؟ كيف لذلك أن يتغير جذرياً خارج السنن الكونية؟
يبدأ الغباش يغطي معظم الشاشة، أشعر أن عينايَ أقرب لبئر طافحٍ، أبتلع ذلك وأكمل العمل في صمت.
تتدهور حالة خالي -رحمه الله- في أسابيع معدودة، أحجز لي ولوالدتي رحلة مساء الأحد الماضي بعد نهاية يوم العمل إلى جدة للسلام عليه لأن علامات المنازعة أصبحت بادية، نتلقى اتصالاً صباح الأحد من ابنته لتبلغنا خبر وفاته رحمه الله.
للمدن هويات معينة في النفس تأخذها من الارتباط مع قاطنيها، وجدّة في نفسي تعني بيوت الأخوال التي آلفها منذ طفولتي، المزحات المتكررة التي لا تتغير مع تقدمي في السن، تأمل والدتي وهي بين أقرانٍ يعرفونها ويعاملونها كشخصٍ موازٍ مساوٍ لا وفقاً لقوة شخصيتها -حفظها الله- ولا درجة علمية ولا منصب، فتنال من نصيب ذلك المزاح والمناكفة ما ننال. المعرفة المتشاركة الممتدة لأجيال، والشعور بأني جزء من هذا الامتداد التي قد لا أعرف تفاصيله لكني أشعر به يروي ظمأً أصاب الجذور دون أن أعي ذلك.
يتغير وقع هواء المدن في النفس، ويتبعها الشعور بالألفة اتجاه تفاصيل الواقع، ويصل ذلك إلى نفسي. أشعر بتغير أصيلٍ فيها، أجد نفوراً مما كنت أحب وآلف سماعه وقراءته ومشاهدته والحديث عنه، وإقبالاً وراحةً في وعلى غير ذلك.
من اللحظات الواضحة في ذهني هي جلوسي لبعض الوقت في الهواء الطلق في المركز، تأمل الكون والبشر الذين فقدوا بعض أو كل قدراتهم، بعضهم من ولِد كذلك والآخر الذي تعرض لعارضٍ تسبب له في ذلك، تمرّ على نفسي معانٍ مهيبة لا أستطيع وضعها بوضوحٍ في كلمات، معاني قدرةٍ وقهرٍ وهيبة وكمال وقوة مطلقة، ومعاني ضعفٍ ونقصٍ وقصر وانعدام حيلة.
وتتبدل الأحوال والأفهام في نفسي، يظهر كل شيء كحقيقة واضحة جلية حادة، كأن بصري ووجودي قبلها كان غباشاً، كقلم رصاصٍ مستهلك تعرض لل”بري” فأصبح شديد الحدة.
إنا لله وإنا إليه راجعون، كل ما عدا ذلك غباش ومُدخلات تجعل من كل حقيقة أمراً مُستبعد الحدوث، وتجعل الخيال أقرب للواقع منها.
أحاول فهم ما حدث بشكلٍ متتالٍ، أن كل متكأٍ ما أن أضع رحلي فيه حتى تغير وتبدل سريعاً، ويقع في فهمي أنها تخليةٌ للنفس وتثبيتاً للحقيقة وإن كانت ثقيلة.
لا يمكن للنفس أن تألف الاغتراب وإن اعتادته، ولا الألم وإن قَوَته، ولا اليأس وإن عجنها وعجنته، ولكن كل ذلك يمر برحماتٍ وألطاف خفية لا تدركها الأذهان.
“ربّنا ما خلقتَ هذا باطلاً”