“وطال بالأنجُمِ هذا المدار”.
أجلس بعد صلاة الجمعة في مقهى كنت أرتاده منذ عدّة سنوات، كان حينها مقسوماً إلى نصفين، نصفٌ للعوائل ونصف للعزّاب، أصبح النصف الذي كان للعزاب هو الذي يتم أخذ الطلبات وتسليمها فيه وهو الذي يحتوي على المدخل الرئيسي، أما القسم الآخر فأصبحت أجهزته مهجورة وأصبح خالياً إلا من عدة مقاعد يتم الجلوس عليها عند امتلاء القسم الآخر.
أتأمل مرور الأعوام، عاماً تلو الآخر. كنت أعتقد حينها أنني إذا وصلت إلى هذا العمر سأكون بالتأكيد قد تجاوزت وعرفت وفهمت وتقبّلت وتصالحت، كان لديّ أمل أنه سيصبح لقدماي أرضاً ثابتة ولهذا الشيء الهلامي الذي أبحث عنه شكلاً واسماً ولوناً.
كنت أحاول إشاحة النظر عن الألم وإنكاره، لا أرغب في أن أكون “سلبية”، أنتظر بتأفف مرحلة التقبل والتصالح معه.
لكنه كان كالكدمة الزرقاء التي أنسى وجودها وأقوم بلمسها عن طريق الخطأ ليسري الألم فيها.
محاولات الإنكار والتعامل منهكةٌ على حد سواء، محاولات الإنكار كانت تحتاج إلى جهد جهيدٌ، كانت تتنوع ما بين محاولات إلهاء ومحاولات نظر للجانب الإيجابي ومحاولات تشبث بأملٍ خفيّ. لكن نتيجتها وخيمة، لأن للجسد والنفس قدرة محدودة تبدأ بالتراجع بعد استنفاذ كامل الطاقة.
وما يخيفني الآن بمناسبة الكتابة الأخيرة عن الخوف، هو الوهن الذي أشعر به، وانعدام القدرة على المقاومة.
أشعر أنني على حافةٍ لا أملك القوة الكافية لأكون متزنة عليها.
وكأنني أركض باستمرار لخط النهاية الذي كلما وصلت عنده تحرك مرة أخرى وعدت أركض ثانيةً بحثاً عنه، وهكذا، حتى يعييني التعب فأسأل نفسي، مالذي أركض منه وما الذي أركض إليه ولماذا وما المعنى منه وما البديل؟
أستيقظ فزعةً في منتصف اللّيل، تهاجمني الأفكار كنحلٍ ثائر، مكتوفة اليدين أمامها، كل المعاني تبدو كسرابٍ بقيعة، أعيد الإقرار بضعفي وعجزي أمام هذه الظلمة المتجددة.
“ربّنا ما خلقتَ هذا باطلاً”.