عن الفقد -١-
يؤسفني أن أقول ذلك، لكن يبدو أن “ثيمة” هذه الفترة هي الفقد.
صديقتي الأقرب إلى قلبي كانت ستغادر بشكلٍ دائم إلى بلادٍ أخرى في قارةٍ تبعد ستة عشرة ساعةً بالطائرة بعد منتصف العام الجاري، أثناء تواجدي في جدّة لقضاء العيد تلقيت رسالةً منها بأنها تفاجئت بشروط الإقامة الدائمة هناك وقد نبهها أحدهم إلى أن تأشيرة دخولها ستنتهي خلال أسبوع وبأنها ستغادر خلال يومين أو ثلاثة.
كنت أحاول التواصل معها هاتفياً لأعرف متى ستكون رحلتها وهل سأتمكن من وداعها حيث أنتي أعود إلى الرياض بعد يومين، وحاولت هي التواصل معي إلا أنه مع ازدحام العيد وازدحامها هي بإنهاء كل شيءٍ في يومين لم يحصل ذلك، فأرسلت لها أسألها عمّا إذا كانت قد حددت موعد الرّحلة فأجابتني بڤيديو قصير التقطته من شباك الطائرة المغادرة.
ذهلت، وطلبت منها أن تبلغني حين تصل وتستقر أوضاعها حتى نتمكن من الحديث.
عندما عدت إلى الرّياض شعرت بوحشة، تغيّر شكل وشعور المدينة بعدما غادَرَتها بخروجٍ نهائي.
لكلّ صداقةٍ وعلاقةٍ شكلها وتفاصيلها المختلفة، لكنّ صداقتي بها كانت أول علاقة صداقةٍ تمكنت من أن أعبّر فيها عن نفسي دون أن أخفي أي جزءٍ منّي مخافة عدم التفهم، وعلى عكس ما يردد البعض “لا أحد يستطيع مساعدتك سوى نفسك” وذلك ما كنت أؤمن به لمدة طويلة، إلا أن صداقتي بها عرفتني إلى نفسي، وجعلتني أتقبّل أجزاء كثيرة مني كنت أرفضها وأنبذها، وساعدتني على رؤية النّور في نفسي عندما كنت لا أرى إلا ظلمةً.
تقول ڤيولا ديڤيس في مقابلتها عن كتاب سيرتها الذاتية مع أوپرا، أنها كانت تعتقد أنها مصابةً بلعنة ما، حيث كانت طفولتها شديدة الصعوبة من جميع النواحي ومليئة بالعنف والفقر، فكانت تتساءل عن مصدر النور في حياتها، حتى وجدت في حياتها أشخاصاً يحبونها، وتقول أن ما يفعله هؤلاء الناس لأنهم يحبوننا، هو أنهم يعطوننا الإذن بأن نتمكن من حب أنفسنا.
لقاءاتنا دائماً تتجاوز الخمسة ساعات على أقلّ التقدير، نضحك ونبكي، نتشارك ضعفنا ومخاوفنا والأحلام والآمال، دون أي حاجز أو محاولة اتقاء لحكم الآخر. كانت لقاءاتنا مساحةً آمنة مُحبّة مضيئة.
لست ممّن يملك صداقات وعلاقات عديدة، لكن ما أملك نفيسٌ وثمين وكريم الأثر، وهي كانت ولا تزال من الأثمن والأكرم أثراً.
لأسباب متعددة مختلفة، اعتدت على أن أقضي وقتاً طويلاً وحدي في صغري، وكانت أمتن علاقاتي مع شخصيات الدكتور أحمد خالد توفيق رحمه الله، الدكتور رفعت اسماعيل، الدكتور علاء عبدالعظيم، نسرين. للعقل والمشاعر قدرةٌ عجيبة على التكيف مع المعطيات سبحان الله، ولمدّة غير قصيرة من حياتي وبسبب أن علاقاتٍ أساسية كان يشوبها اختفاءات مفاجئة، ولحماية نفسي من الألم المصاحب لذلك وضعت جداراً على قلبي ونفسي ومشاعري، وكنت دائماً أستدل في نفسي بحديث أبي ذر بأنه يمشي وحده ويموت وحده.
كنت أفعل ذلك لأبرر لنفسي أن الناس أطباع وأرزاق، وليس للجميع قدرةٌ على تكوين علاقات طيبة متينة، كما أن قبول الآخرين في المجتمع للمختلف لابدّ أن يكون معلّباً أيضاً، فالاختلاف يجب أن يكون في “كرتون” مغلف معروف. حتى تعرّفت إليها وإلى صديقة أخرى في مكان عمل سابق، وأصبحت علاقتنا علاقة صداقة وأخوة ومساحة آمنة لثلاثتنا.
رأيت نفسي بأعينٌ مختلفة مُحبّة، سريانٌ غير مفتعلٍ بين أرواح لا يوجد أي تقاطع أو تشابه في خلفياتهم أو طرقهم السابقة، وكان ذلك لي نوراً ورحمة في أحلك أيامي ظُلمةً.
في إحدى المسلسلات، كانت تقول من فقدت زوجها منذ مدةٍ أنها اعتادت أن تغلق قلبها لأن الحب يتبعه ألم الفقد، فردت عليها من تكبرها أعواماً عديدة: “أعتقد أنكِ قد تتجنبين فعلاً الكثير من الألم حين تحاولين حماية قلبك، لكن قد ينتهي بكِ الحال أن تعيشي نصف حياة”.
أعلم يقيناً الآن أن الفقد مؤلم، سواءً كان ذلك فقداً أبدياً من الحياة الدنيا، أو بعداً محتوماً، أنه يجعل المدن والأماكن أكثر وحشةً، وأنه يجعل الأيام هلامية نحاول أن تصلبها حتى نتمكن من تأدية ما علينا لأن الدنيا لا تتوقف لفقدنا أو وجعنا، وأنه يصيبنا بالإرهاق لأننا نحاول جاهدين ألا نعيد إغلاق قلوبنا خشية الألم.
أشعر أن هذا كل ما أود الكتابة والبحث عنه هذه الأيام، كيف يُسمح للألم بالتواجد بأقل الخسائر، وكيف نعيد تعريف ذواتنا ومحيطنا بعد الفقد، وكيف أن الفقد لا يقتصر على أشخاص رحلوا أو باعدت بيننا وبينهم صروف الحياة، بل قد يكون الفقد الأثقل هو لأناس أحياء يفترض أن تكون علاقتنا بهم جذرية ومتينة إلا أن ذلك لن يحصل يوماً، نراهم ونتكلم معهم عن كل ما هو سطحي وغير مهم، لكن الأثقل مسكوتٌ عنه وهذا قدرك، لأن الحديث خسارته أثقل وأنكى، وتقبل ذلك فيه فقدٌ ثقيل مرير، لأنه ليس مرئياً إلا لعينيك ونفسك، فقدٌ متكرّرٌ مع كل موقف، وكيف ألا يعرّفنا هذا الفقد على الدّوام، وكيف نتمكن من الاحتفاظ بقلوبٍ منفتحة للحبّ دون أن يتمكن الألم المتكرر من إغلاقها دونه.
أدعو الله أن يحيطني وإياكم بالصّادقين الخيّرين الطيّبين الأنقياء، وأن يجعلنا منهم، وأن يأخذ بأيدينا إلى ما ومن ينير قلوبنا وعقولنا وأرواحنا.