المنزل، المخبئ الدافئ

اليوم بقيت مستيقظة حتى وقت متأخر دون تخطيط، خبزت “شبيه براونيز” سريع بمكونات بسيطة لأنني بعد يوم غد سأضطر لاستبعاد أغذية إضافية حسب توجيهات الطبيب لمدة شهر ومن ثم أعيد الفحوصات لمعرفة ما إذا كانت هناك استجابة أفضل.
حقيقةً، أحاول جاهدة ألا أيأس أو أستسلم لأن العلاج عن طريق الغذاء طريق مليء بالتجارب وعدم القطعية، وأشعر بأن الإرهاق من مراقبة طعامي بدقة منذ عدة أشهر واستبعاد معظمه قيما عدا الاستثناءات بدأ يسبب لي القلق.

أحاول أن أقنع نفسي بأنني بدأت الطريق فسأحاول استكماله، وأنه إن كان فيه عافية بدني ونفسي فقد يقيني بإذن الله ما هو أشد تعقيداً في المدى البعيد، وأتمنى أن يجدي ذلك نفعاً لأنني أشعر أنني لا أستطيع استكمال الطريق لمدة طويلة.

تشعرني فكرة وشعور المنزل بالأمان، فكرة أنني لا أحتاج للتفكير لمعرفة أماكن الأشياء فيداي تذهب إليها تلقائياً، وأنني أستطيع الاستلقاء بعد نهاية يومي بهيجاً كان أو حزيناً والانغماس في الشعور دون قلق الانكشاف، فكرة اعتياد الألفة مع الأشياء والحاجيات والأماكن، وفكرة التجارب العديدة والواسعة والمتنوعة التي أخوضها من مكان واحد.

فكرة أنه مخبئ عن العالم الشاسع الواسع، المزدحم الهائج المائج، وتنهيدة الارتياح عند دخوله، اعتياد الأقدام على أرضياته، واعتياد الأذن على سكونه وأصوات الجيران المختلفة بما فيهم الطفلة المليئة بالأسئلة التي تعود مع والدتها إلى المنزل كل يوم في ذات الوقت ظهراً وتنتزعني بلطف من الانغماس في مهام العمل لأتحسس أن في العالم أبعاداً أخرى أكثر دفئاً ومعنى.

وممتنة لقدرتي على الشعور بالأمان فيه.

هل تُؤلف العزلة؟

لا أعرف إن كنت أفضل العزلة حقيقةً أم أنني اعتدتها وألفتها، فيحصل كثيراً أن نعتقد أننا نحب أمراً ما لنكتشف فيما بعد أنه شعورٌ مألوفٌ لا أكثر بغض النظر عن كونه صحياً أو ذا أثر طيب علينا.

بعد عام ونصف من الجلسات أعلم الآن أنني أقف هنا في المنتصف، أعلم ما أعلمه، أعرف أن الأشياء والأشخاص لا يتغيرون لمجرد رغبتي في ذلك، أن رغبتي الفطرية في الحصول على مشاعر معينة أو اتصال حقيقي عميق مع من أوكلت لهم هذه الأدوار لن يجعل الأوضاع مختلفة.

“This is as good as it gets”
التواجد مع هذه الخلاصة والتأمل فيها ومحاولة إدراكها وهضمها دون تلبكات قلبية ونفسية هو أمر صعبٌ للغاية. وأن تعترف لنفسك أن عزلاتك الطويلة ما هي إلا جنوحٌ للمعتاد والمألوف وليس رغبة ولا حاجة، وأن الاتصال الصادق بالآخرين ينعش روحك وقلبك ويجعل الحياة ذات طعم ومعنى في عينيك. الاعتراف بهذه الحاجة البشرية ثقيل على النفس، لأن الحاجة للآخر يعني دائماً ضعفك لأنك عرّفت سابقاً قوتك بقدرتك على الاستغناء.

أن تجلس مع هذا وتعترف به دون أن تعرف ما يحمل المستقبل لك إلا احتمالية فراق صديقة حبيبة لأنها ستنتقل إلى بلاد أخرى في الجانب الآخر من العالم هو أمر مخيفٌ جداً، لأنها قد تكون أكثر علاقة صادقة حقيقية قد خضتها.

ويضيف إلى هذا الخليط صعوبة إنشاء علاقات حقيقية ذات معنى بالنسبة لك، دون إخفاء أجزاءٍ منك. دون قلق من أنك “قلت أكثر من اللازم”، أو “أقل من اللازم”، “هل أستطيع التعبير بشكل كافٍ”، “هل كان المفترض أن أقول شيئاً مختلف؟”.

مخيف أن تنظر إلى الماضي وترى أقدارك قد حتمت عليك ألفة العزلة والابتعاد وجعلت الاتصال الحقيقي بالآخر نادراً. لكن لا يمكن تغيير ما قد كان، فهل يمكن تغيير أمور جذرية فينا شكلت أساساتنا؟

“يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي”

أحب الروتين وكسره

حالياً، أكتب أثناء ارتداء نظاراتي الجديدة حيث قررت العودة إلى النظارات ذات الإطارات الذهبية الخفيفة الشفافة بدلاً من تلك ذات الإطار الغليظ التي ارتديتها السنين الماضية.
نصحني العديد بإجراء عملية تصحيح النظر للتخلص منها، إلا أنني لا أشعر بأي رغبة في ذلك بل تريحني في إخفاء بعض الوضوح الذي تُظهره الأعين عادةً.

عدت اليوم إلى قواعدي سالمة، فيوم السبت احتجت بشكلٍ سريعٍ مفاجئ لترك المنزل بسبب أعمال إصلاحات ضرورية. وخلال الأيام الماضية كان لدي إحساس عام بأنني في إجازة مما أثر على إنجازي في العمل بسبب تواجدي في منزل عائلتي.

بشكلٍ عام، أفضل الروتين والتخطيط المسبق ولا أميل إلى المفاجئات، ولكن عندما يحدث أمر-طيّب- مفاجئ، أتذكر أهمية تغيير الروتين بين الحين والآخر وعدم التمسك القاتل بالروتين. لكن مؤخراً ومنذ أن أصبحت أتبع الحمية العلاجية أصبح الروتين ضرورةً وليس رغبة وذلك حتى أتمكن من إعداد طعامي أيام الأسبوع والتخطيط لوجبات الأسبوع المقبل وشراء الحاجيات.

كان من المنعش عدم الحاجة إلى الطبخ عدة أيام متتالية على الرغم من أنني مؤخراً أصبحت أستمتع بالتجارب في المطبخ وأشعر بوجود شيء ناقص دونها، لكنني بت أعتقد أن كسر الروتين بين الحين والآخر له نفس أهمية وجوده.

كسرته أيضاً بالذهاب لمشاهدة Soul في السينما باتفاق مفاجئ مع صديقتي قبل ساعة من وقت العرض، تركني برغبة في مشاهدة أشياء تشبهه تثير الخيال والأفكار والتأمل، قد أذهب لمشاهدته مرة أخرى.

تصبحون على أشياء مدهشة لطيفة ظريفة بالطبع.

ألفة ما قبل المعرفة

أقوم بنقع الكزبرة الطازجة في وعاء مليء بالماء وأفكر بمعضلتها: أحب الكزبرة والبقدونس وإضافة القليل منهما للأطباق ينقلها إلى مستوى آخر تماماً، لكني أحمل هم شرائها لأن غسيلها وقطفها عملية طويلة بعض الشيء إضافة إلى أن كمياتها كبيرة ويصعب استهلاكها خلال أسبوع كما أن المطبخ يمتلئ بأوراقها فأقضي وقتاً بعد ذلك في لملمتها.

تعرفت الشهر الماضي إلى وصفة فلافل منزلية مخبوزة مقرمشة أعدها كل جمعة تقريباً، وأصبح لفائض الكزبرة والبقدونس مكاناً محبباً، أعد عدة مجموعات من الخليط وأضع الفائض مقسماً في الفريزر.

منحت اليوم نفسي إجازةً من التمرين الذي عدت إليه ثلاثة أيام متتالية لأن آلام العضلات تنغص علي نومي. أحب الأيام التي أستيقظ فيها نشيطة دون سبب يذكر وأتمكن من إنجاز أغلب أعمالي خلالها.

بعد العصر، اتفقت وصديقتيّ للذهاب إلى الحديقة دون تخطيط مسبق، لم يكن هناك أحدٌ في الحديقة سوانا تقريباً. بعد صلاة المغرب غمرتني لحظات من الهدوء والسكون والألفة، كتلك التي كنت أشعر بها في ومضات من الطفولة: المبيت لدى ابنة خالتي بعد محاولات إقناعٍ طويلة ودموع ثم الاستيقاظ على صوت خالتي رحمها الله تدعونا إلى الإفطار صباحاً ب: صباح الخيرات والليرات، إفطار رمضان في منزل جدي رحمه الله في المدينة المنورة وكاسات الحديد المبخرة بالمستكة و”الحيسة” المدينية، إفطار العيد والأحاديث والضحكات والأغاني التي تليه.

أُطلق عليها ألفة ما قبل المعرفة، قبل التعرف إلى أي حقائق لم تُروَ لك، لا تشوبها شائبة ولا منغص.

مؤخراً عدت للاستماع إلى فضل شاكر في مشاويري بعد الابتعاد لفترة طويلة عن الأغاني العربية -باستثناء الست طبعاً- وأكرر الاستماع كثيراً لفين لياليك.

هل

اليوم استيقظت مبكراً للذهاب لموعدي الشبه أسبوعي صباح السبت، ثم قمت أخيراً بزيارة مكتبة جرير وشراء أدوات الرسم. بعدها مررت على مكان القهوة المفضل لدي، أثناء القيادة كانت الشمس شديد السطوع، كل الشوارع والمحلات والسيارات تبدو شديدة الوضوح دون الغبش وقلة الدقة والوضوح الذي يسببها غيابها. شعرت بحب شديد نحو الشمس وضوئها والوضوح والنور الذي تمنحه لأيامي.

لا يزال في خلفية مشاعري منذ البارحة شعورٌ ثقيل حاولت التغلب عليه. أن تستوعب ما حصل لك وتطلب المساعدة وتتقلب بين أيام مرة وحلوة هو أمر طبيعي تستطيع التعايش معه، لكن أن ترى أحدهم يغرق ولا يسمح لأي شخص بمشاركته شعوره ولا يرى حاجته الماسة لطلب المساعدة لعمق القاع الذي مكث فيه عمراً حتى ظن أن هذا كل ما يمكن للحياة أن تحتوي من مشاعر هو أمر آخرٌ تماماً.

تعرف ألمه كما تعرف ظهر كفّيك، فقد كنت حوله دائماً، تتواجد بصمت وخوف مكظوم لأنك لا تمتلك سوى هذه الحيلة. تعرف ألمه لأنك كنت تسمعه ولا يزال صوته واضحاً في ذاكرتك مهما حاولت الهرب بالانشغال في الحياة وبنفسك، لكن صوته وخوفه وعجزه يزورك أحياناً ليوقظك في منتصف الليل، ويزورك أثناء تأملك في غرف الانتظار، ويزورك على هيئة نوبة قلق توقظك صباحاً.

تتسائل بينك وبين نفسك: إن كنت استطعت التجاوز والمسامحة في أغلب أيامك، لكنه هو لم يستطع لأنه لا يعرف بعد أنه عالق في ذلك جله، هل سيستمر ذلك في إعادتك إلى نقطة الصفر؟ وهل سيتمكن ويتحمل يوماً مواجهة الحقائق دون تجميل؟

هل هناك نقطة تعافٍ حقيقة أم أن كل هذه طرق وحيل وخدع للتعايش مع الواقع والقدرة على التواجد فيه؟
هل نستطيع التعافي والتجاوز فعلاً إذا لم يتعافَ ويتشافى ويتجاوز أصحاب الشأن، وإذا كانت آلامهم لا تزال واضحة جلية؟

كل ما ترغب فيه فقط هو أن يُمسح على قلبه، أن يعرف ما تعرفه دون الحاجة لخوض المعارك والصراعات التي خضتها، وألا يصل للقيعان التي رأيتها، لكنك حقيقة لا تمتلك فعل أياً من ذلك ولا تمتلك أي خيارٍ فيه.

فسحة الأمل

اليوم، بعد حديثي مع الطبيب المختص في الطب الوظيفي وفهم الأعراض التي عانيت منها الشهر الماضي بعد أخذ بعض المكملات، فهمت أنه لا يوجد نوع محدد من الأشعة أو تحليل معين يمكن من خلاله الوصول إلى جذور بعض الأعراض، بل يمكننا فقط القياس على الأعراض وردات الفعل المختلفة.

لكنني شعرت بالأمل، أنني اقتربت من الجذر، الطريق ليس سهلاً أبداً وليس معبداً، لكنه طريق وضع أمامي وتيسرت لي أسبابه. أخذت نظرة سريعة على حياتي وتصالحت مع فكرة أنني لحكمة أجهلها تأخذني الطرق دائماً للجذور، مهما حاولت التشبث بالأسطح والاكتفاء بها ومقاومة تفكيكها أصل لمفترق طرقٍ يرغمني على التبحر والتشعب.
أشعر بالامتنان الشديد للألطاف الخفية التي أوصلتني إلى هنا في أحلك الليالي ظلمةً، وانتشلتني من غياهب اليأس التام. الألطاف التي منحتني القدرة على الاستمرار في التجربة والخطأ والوقوع ومن ثم التجربة مرة أخرى.

أعتقد أن منح الأمل للآخر هو من أنبل ما يقوم به الإنسان لأخيه الإنسان. أتذكر استيقاظي في إحدى الصباحات وذهني يردد (ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل)، فلو لم يتأمل الإنسان الشفاء، التغيير، الحب، النهوض، لقاء الأحبة، لكان الاستمرار أضيق من ثقب إبرة، وهو ما يعتريه عندما يخفت الأمل.

جعل الله حياتكم مليئة بفسحات الأمل وبالآمال الطيبة

هل يمكن التصالح مع الانفعال؟

بدأت الأمور تعود إلى سابق عهدها وأعيد استعادة أنفاسي بعد القطار المعنوي الذي مر علينا الأسابيع الماضية.

كتبت عدة “أنصاف” مدونات ولم أكملها، بدأت في دورة لتعلم الرسم المائي ولم أكملها لأنني لم أشترِ حاجيات الرسم حتى الآن، أعلق كل ذلك على زيارة مكتبة جرير واقتناء جهاز آيباد وأدوات الرسم التي أحتاجها. ولكن لم يجب أن يكون كل شيء مثالياً وفي مكانه الذي أفترض صحته حتى أنهي ما أبدؤه؟

سجلت مع مدربة رياضية وهي مختصة علاج فيزيائي في الوقت ذاته لأنني لم أستطع إلزام نفسي بنفسي للعودة إلى الرياضة بعد انقطاعي لما يزيد عن ثلاثة أشهر والذي عقب انتظاماً قارب تسعة أشهر، علقت ذلك أيضاً على شراء مرآة مناسبة حتى لا أقوم بالتمارين بشكل خاطئ فتؤذيني. لدي قائمة ذهنية من الأسباب المقنعة لتأجيل كل شيء ماعدا الاستلقاء بعد العمل ومشاهدة المسلسل الذي أتابعه هذه الفترة أو تصفح اليوتوب بالطبع.

حالياً أحاول إيجاد طريقة أو وسيلة أو شيء ما أقوم به لحماية مشاعري وذهني من أذى الغير، ففي العمل ابتليت بأحد من هم أعلى مني إدارياً إلا أنه كتلةٌ من القلق والتوتر والانفعال واللوم المستمر، يرى الأعمال فيسرع لتخطئة الآخرين ليتبين بعدها أنه لم يقرأ ما كُتب بشكل صحيح. وللأسف التعامل مع الانفعاليين ليس شيئاً أجيده بل أشعر أن طاقتي الجسدية والنفسية تُمتص وكأن كل متعة وشعور جيد يتم سحبه مني لبقية اليوم.

أرغب في الوصول إلى مرحلة البرود التام بحيث لا أنفعل داخلياً أو خارجياً في وجه الانفعال، أي لا أكبته ولا أكظمه بل لا أشعر به أساساً. فقررت أن أقوم أولاً باعتبار الشخص شخصاً غير متزن ومعاملته على هذا الأساس ومحاولة بناء جدارٍ نفسي سميك، ومن ثم التعرف إلى الفرشاة والورق عل ذلك يأخذ بذهني بعيداً. أتمنى ألا يكون لأي شخص انفعالي سواءً كان قريباً أو بعيداً هذا الأثر شديد الأذى في نفسي التي أكره حساسيتها المفرطة وأتصارع معها أغلب الأحيان، فالانفعال يجعلني أغلق نفسي عليها وأبتعد عن المحيط لأحاول استعادة اتزاني، يعيدني مرة أخرى إلى شعور الشخص العاجز الذي لا يملك حماية نفسه من غضب الآخرين.

سأحاول أن أتنبه كل يوم إلى الأشياء والأشخاص الذين أصالح بهم الأيام والزمن، وما يساعدني على مصالحة نفسي وتهدئتها، اليوم كان كأس الشاي الأبيض ظهراً وبعض الفراولة المحلية ووجبة غداءٍ لذيذة بسيطة من السالمون، العودة إلى الكتابة، وأخيراً الست-صالحت بيك أيامي.

ما هو اليوم؟

لا أدري إن كانت الأيام لا تزال تُعد وتُؤرخ كما السابق، لأن شعوري الشخصي نحوها أنها متماهية متداخلة، فعندما أستيقظ صباحاً أحتاج لبعض الوقت حتى أعرف اليوم وما إذا كان يوم عمل أو نهاية أسبوع.

عدت إلى العمل في المكتب قبل أسبوعين وبدأت أيامي تتحسن قليلاً خاصة أنني كنت ألتقي هناك بصديقتيّ، وكان هناك العديد من الأحاديث والحكاوى التي تبادلناها، إلا أنني اضطررت للتوقف عن ذلك وإكمال عملي عن بعد نظراً لاختلاطي بوالدتي التي أصيبت بالفيروس المنتشر.

بعد ذلك دخلت في حالة قلق أقرب للهلع، أستطيع سماع صوت والدتي يخفت تدريجياً عبر الهاتف لكنني لا أستطيع رؤيتها، أتمنى أن يتحسن صوتها يوماً بعد يوم لكن ذلك لا يحدث. هل يُعقل أن يكون هذا الفراق الدنيوي؟

كان المحيطون بي يخبرونني مراراً وتكراراً بأنها ستتحسن إن شاء الله، وأقدر لهم ذلك حيث أنهم يحاولون جعل وقع الموضوع أخف وأكثر أملاً، لكنني كنت أتضايق في ذات الوقت وأفكر “لن أضايقكم بأفكاري عن حقائق الحياة التي نرغب في إشاحة وجوهنا عنها طمعاً في عدم حدوثها، لكنني لا أرغب في الهروب من ذلك”.

مواجهة واقع أن الحدث الأكيد في حياة كل الأحياء هو نهايتها، ليس الدراسة ولا العمل ولا الزواج ولا الإنجاب ولا السعادة ولا الحزن. بدأت الأشياء تفقد طعمها ولونها، وبدا كل شيءٍ بارداً معتماً بلا معنى، كل شيء يبدو غير مألوف.

وفي خضم ذلك كله كنت أحاسب نفسي وأفكاري وحزني، هل تعلقي مَرَضي وطفولي؟ هل حزني واقعي؟ هل تشبثي بوجودها أنانية مني؟

كيف يمكن للعالم أن يكون باهتاً لهذه الدرجة؟ وللقلب والأعضاء أن يكونوا هواءً وفراغاً؟

أحاول إيجاد نقطة الاتزان، بين كون الحياة في حقيقتها مؤقتةً جداً إلا أنها حقيقيةٌ جداً وعلينا أخذها بجدية، أن الألم جزء لا يتجزء من الحب لأننا مخلوقات ضعيفة هشة حياتها ليست أبدية ووجودها مؤقت وغير معلوم النهاية، أننا لا نمتلك شيئاً وإن امتلكنا ما امتلكنا، وأننا لا نستطيع فعل شيء حيال أي من ذلك.

بدأت مستويات الأكسجين تتحسن لدى والدتي بفضل الله، لكن صدمة احتمال الفقد القريب جداً التي مررت بها جعلتني أرى كل شيء بشكل مختلف، وأصبح يبدو كل شيء شديد السطحية ضئيلاً ومؤقتاً.

أول أسبوعين من كانون الثاني

كانت الأسبوع الماضي كانت عائلية بامتياز، على الرغم من أنني لا أفضل الذهاب إلى الأماكن المزدحمة وأتجنبها، إلا أنني كسرت القاعدة لأنضم إلى والدي وإخوتي لتناول الغداء يوم الخميس، وكان الأمر يستحق ذلك.
بعدها زارنا أحد الأقارب وبقي حتى منتصف الليل. ويوم الجمعة أيضاً كان اجتماعاً عائلياً. أحب الالتقاء بالأقارب -وليس لدي العديد منهم في المدينة التي أقطنها- لكنني كلما عرفت نفسي أكثر كلما تنبهت إلى أن طاقتي تُسحب وذهني يتشوش كثيراً عندما أكون محاطة بأناس عديدون لفترة طويلة. وكأنه أمر جسدي لا نفسي.

بدأ هذا الأسبوع بشكل هادئ بطيء، كلما أتيت للكتابة يزورني شعور غير لطيف، فالحديث هو نفسه هنا، وبيني وبين نفسي، ومع الأخصائية التي تراودني نفسي أن أؤجل الجلسة في كل أسبوع لأنني أشعر أنه لم يعد لدي ما يُقال. أعرف ما الذي يؤذيني، لكنني لا أعرف خطوات تغييره. أشعر بالوجهة لكنني لا أتلمس الطريق إليها.

كانت لدي جلسة هذا الأسبوع مع أحد الأقارب وهو متخصص في التقييم وفقاً لنموذج (بيركمان)، يمكن قراءة المزيد عنه لكنه عامةً نموذج يستطيع المرء من خلاله التعرف على نفسه بشكل أوضح، وإلى ميوله واهتماماته وما يناسبه سواءً كان ذلك في الحياة عامةً أو في العمل. وكانت هذه الجلسة محاولة لتحديد الخطوات التي يمكن أن تأخذ بي إلى ما أتقن عمله ويناسبني في الوقت ذاته.

على عكس نهاية الأسبوع الماضي، نهاية هذا الأسبوع هادئة، أنتظر نضج خبز الموز بدقيق جوز الهند الخالي من أي محليات، قاربت إنهاء قراءة كتاب لم أكن أرغب في انتهاءه وكنت أتباطؤ في قراءته لأجل ذلك، أنهيت مسلسلاً من ثمانية حلقات في يومين تقريباً وذهبت لزيارتين عائليتين سريعتين.

أعتقد أن الشعور الغالب على هذه الأيام هو “الطفو”، كل شيء يبدو قريباً جداً وبعيد النوال في الوقت ذاته، يغمرني الرضا للحظات طوال ويصارعه القلق والجزع، أحاول القبض على لحظات الرضا والانغماس فيها، ليس تشاؤماً ولكني أصبحت أكثر معرفة بالواقع، فعندما تحين اللحظة التالية أمتن لأنني لم أشغل عقلي وقلبي حينها بـ “ماذا سيحصل بعد”.

كل شيء يبدو غير حقيقي بما يكفي، حالياً أتمنى لو كانت لدي وسيلة أخرى للتعبير غير الكتابة والحديث، لأن هناك مشاعر لا أستطيع التعبير عنها من خلالها بوضوح. كأن كل شيء يسير بطريقة التصوير البطيئة في الأفلام، مشاعر لا تميل اتجاه السلبية ولا الإيجابية، رغبة مستمرة في الصمت والتأمل.

السادس من كانون الثاني

أشعر أنني أمر هذا الأسبوع بشعور افتقدته منذ ما يزيد عن عام: امتلاك الوقت. فبعد أن عاد أغلب الزملاء من الإجازات التي تكدست في نهاية العام وعدت لإنجاز أعمالي فقط وبعد الاستقرار في المنزل والانتهاء من أغلب الحاجيات، أصبح يعتريني خلال اليوم شعور راحة عجيب بفضل الله، افتقدت هذا الفراغ كثيراً، القدرة على الإبطاء بعض الشيء وعدم الركض واللهاث. أتوقف أثناء المشي لإنهاء خطواتي وتعتريني ابتسامة في كل مرة تتبادر إلى ذهني فكرة أن الركض قد تباطئت سرعته، أرغب في استنشاق هذا الشعور والاحتفاظ به في رئتي.

اليوم يصادف ميلاد أحد أعز الصديقات، فكرت في شراء شي بسيط وإعطائها إياه عند الالتقاء بها، لكن قررت إرسال باقة ورد مجهولة المصدر إليها لتكتشف المرسل فقط عند استلامها لها، لأنني تذكرت شعور المفاجئة اللطيف الذي غمرني عندما قامت ابنة عمي بفعل ذلك لتشكرني على خدمة بسيطة جداً قدمتها لها وبقائي طوال اليوم مشغولة في التفكير في مرسل الباقة التي تواصل معي المندوب لإيصالها.

أحالتني الأخصائية إلى مختص في الطب الوظيفي وأعطاني عدة مكملات وطلب مني الاستمرار على نظام غذائي معين ليس سهلاً أبداً، لكنني أعتقد أنني حالياً أجرب لأول مرة الحياة انخفاض حدة صوت الأفكار القلقة المزدحمة في رأسي، أرغب في قراءة المزيد عن ارتباط صحة الجهاز الهضمي بالالتهابات المخ “brain inflammation” والتي تزيد في كثير من الأحيان من أعراض الاكتئاب والقلق.
حتى الآن، يصادف أن العديد ممن أعرف وتكون لديهم معاناة متربطة بأجهزتهم الهضمية يكونون أيضاً أشخاصاً قلقين متوترين.
وشخصياً لا أمانع تجربة أي شيء طالما أنه لا يحتوي على مواد كيميائية أو أدوية، كما أنه وفقاً لتجاربي الشخصية تعالج الأدوية المستمرة أعراض الأمراض المزمنة لا جذرها، وأفضل دائماً الوصول إلى الجذور وإن كانت الطرق أصعب وأكثر وعورةً وطولاً.

لدي فضول لمعرفة شكل الحياة دون نبضات القلب المتسارعة والأفكار الصاخبة، لتجربة مشاعري اتجاه الأشياء والأشخاص والأحداث دون ظل الاكتئاب الثقيل الذي كنت أظن أنه جزء من تكويني ولا أعرف له اسماً، ودون التقلبات الحادة في المشاعر، أرى أن “المشوار” طويل لكن كل شيء طيبٍ يحتاج إلى صبر والتزام و”طولة بال”، رزقني الله وإياكم إياها.