السادس من كانون الثاني

أشعر أنني أمر هذا الأسبوع بشعور افتقدته منذ ما يزيد عن عام: امتلاك الوقت. فبعد أن عاد أغلب الزملاء من الإجازات التي تكدست في نهاية العام وعدت لإنجاز أعمالي فقط وبعد الاستقرار في المنزل والانتهاء من أغلب الحاجيات، أصبح يعتريني خلال اليوم شعور راحة عجيب بفضل الله، افتقدت هذا الفراغ كثيراً، القدرة على الإبطاء بعض الشيء وعدم الركض واللهاث. أتوقف أثناء المشي لإنهاء خطواتي وتعتريني ابتسامة في كل مرة تتبادر إلى ذهني فكرة أن الركض قد تباطئت سرعته، أرغب في استنشاق هذا الشعور والاحتفاظ به في رئتي.

اليوم يصادف ميلاد أحد أعز الصديقات، فكرت في شراء شي بسيط وإعطائها إياه عند الالتقاء بها، لكن قررت إرسال باقة ورد مجهولة المصدر إليها لتكتشف المرسل فقط عند استلامها لها، لأنني تذكرت شعور المفاجئة اللطيف الذي غمرني عندما قامت ابنة عمي بفعل ذلك لتشكرني على خدمة بسيطة جداً قدمتها لها وبقائي طوال اليوم مشغولة في التفكير في مرسل الباقة التي تواصل معي المندوب لإيصالها.

أحالتني الأخصائية إلى مختص في الطب الوظيفي وأعطاني عدة مكملات وطلب مني الاستمرار على نظام غذائي معين ليس سهلاً أبداً، لكنني أعتقد أنني حالياً أجرب لأول مرة الحياة انخفاض حدة صوت الأفكار القلقة المزدحمة في رأسي، أرغب في قراءة المزيد عن ارتباط صحة الجهاز الهضمي بالالتهابات المخ “brain inflammation” والتي تزيد في كثير من الأحيان من أعراض الاكتئاب والقلق.
حتى الآن، يصادف أن العديد ممن أعرف وتكون لديهم معاناة متربطة بأجهزتهم الهضمية يكونون أيضاً أشخاصاً قلقين متوترين.
وشخصياً لا أمانع تجربة أي شيء طالما أنه لا يحتوي على مواد كيميائية أو أدوية، كما أنه وفقاً لتجاربي الشخصية تعالج الأدوية المستمرة أعراض الأمراض المزمنة لا جذرها، وأفضل دائماً الوصول إلى الجذور وإن كانت الطرق أصعب وأكثر وعورةً وطولاً.

لدي فضول لمعرفة شكل الحياة دون نبضات القلب المتسارعة والأفكار الصاخبة، لتجربة مشاعري اتجاه الأشياء والأشخاص والأحداث دون ظل الاكتئاب الثقيل الذي كنت أظن أنه جزء من تكويني ولا أعرف له اسماً، ودون التقلبات الحادة في المشاعر، أرى أن “المشوار” طويل لكن كل شيء طيبٍ يحتاج إلى صبر والتزام و”طولة بال”، رزقني الله وإياكم إياها.

آخر أسبوعين من كانون الأول

كانا أسبوعين حافلين، مليئين بالصراعات الداخلية، الرغبة في ترك كل شيءٍ والانعزال عن العالم، مقاومة هذه الرغبة بكل ما أوتيت من طاقةٍ وجهدٍ ومحاولات استبقاء الأمل.

ساعدتني التجارب السابقة كثيراً، رأيت وصولي مراتٍ عدة لقيعان بأشكال مختلفة، وفي كل مرةٍ كان لطف الله يضع في طريقي ما يأخذ بيدي إلى أماكن أعمق وأبعد، أماكن تنتشلني من القاع وتعيد تعريف مفاهيمي وتريني كل شيءٍ بعين أخرى.

ساعدني كثيراً لقاء الصديقات بعد طول انقطاع، فمع الأولى قضيت ٥ ساعاتٍ كاملة في التحدث دون انقطاع، في الضحك وفي البكاء أيضاً، ومع الأخرى قضيت ما يقارب ذلك، أحاديث لا تنقطع أثناء المشي في الحديقة وتأمل القمر المكتمل المختبئ وراء الغيوم. اتفقنا أن علينا ثلاثتنا الاتفاق على وقتٍ محدد من كل أسبوع للالتقاء حتى لا نترك الأمر لأمزجتنا الكسولة. أعتقد أن لحظات الصفاء هذه ساعدتني وتساعدني كثيراً، خاصةً وأننا جميعاً نمر بنفس المرحلة المرتبطة بمحاولة إيجاد المعنى وعدم الارتياح لشكل العمل الحالي، مرحلة تشكيل مفاهيم وثوابت ورؤية الواقعة والحقيقة مجردين من التخيلات المثالية والاصطدام بما يجبرنا على النظر و”الحفر” في دواخلنا وعدم اللجوء إلى الهروب كما كنا نفعل عندما كنا أصغر سناً وأقل تجربة.

تساعدني كثيراً أيضاً فكرة أنني أخبر نفسي: هذه مرحلة انتقالية كسابقاتها، لا شيء يدوم، وطالما أنني أدعو من يملك كل الإجابات فعليّ أن أترك التشبث بالمقود بهذه القوة.

ممتنةٌ للألطاف التي غمرتني في أكثر اللحظات حلكةً وظلاماً، للعلامات على الطريق التي أرشدتني بشكل تدريجي وشكلتني، ممتنة للقدرة على دعاء مالك الملك في كل وقت وفي أي مكان، لأطياف الأمل التي تلوح لي حتى وإن تلاشت بعدها، للانفتاح على التجارب المختلفة التي كانت أسباباً وحبال نجاة.

أشعر أنني بحاجة إلى استعادة القدرة على كتابة اليوميات، فالمدة الماضية كانت قاعاً لم أخرج منه تماماً، لكنني إن تعلمت شيئاً من تجاربي يعينني على هذه الأيام فهو أن القيعان التي تدفعني للاتجاه إلى الداخل وإلى الخالق تتلوها أمورٌ طيبة بإذن الله.

آخر أسبوع من الإجازة- كانون الأول

اليوم كان أول يوم عملٍ لي بعد العودة من إجازتي والتي انقضت سريعاً بالطبع.
استسلمت إلى حقيقة أنني أحتاج إلى من تساعدني في مهام المنزل بشكل أسبوعي على الرغم من أنني كنت لا أفضل الاستفادة من الخدمات المقدمة من شركات عمال المنازل بالساعة لعدة أسباب أخلاقية وإنسانية، إلا أنني حالياً لا أمتلك حلاً آخر لأنه في المقابل الغرف التي يتم تصميمها في الشقق للعاملات المنزليات لا أعتقد أنها تكفي طفلاً حتى تكفي إنساناً بالغاً عاقلاً يحتاج إلى مساحته الشخصية في المكان الذي سيكون مقر معيشته لما يزيد عن عام.

أجلس في نهاية اليوم بعد الانتهاء من الاجتماعات والانتصاف في رسائل البريد الالكتروني التي تجاوزت الأربعمائة، وبعد إعداد الغداء وتناوله، في انتظار انتهاء العشرة دقائق التي يحتاجها مشروب الليمون والزنجبيل الدافئ حتى (يختمر) إن صح التعبير.

يغمرني إحساسٌ كنت أحاول الهرب منه من خلال الإجازة. أشعر أن هذه المرة مختلفة عن كل مرة، وكأنني انتصفت في الطريق الطويل، أرى ما مضى بقلبٍ كان يحمل غضب الدنيا حتى فتته مراراً وتكراراً ليتجمع مرة أخرى وبشكلٍ آخر، ليتجاوز التوقعات التي خابت ويفهم ما ورائها من معاناة أشخاصٍ خُيبت توقعهاتهم حتى بقي ما بقي منهم. يتجلى لي فهم أن ما كان كان وما سيكون سيكون، لا أستطيع تغيير الماضي ولا الحاضر وإن خرقت الأرض وبلغت الجبال طولاً. أنه ليس هناك نهاية مغلقة حالمةٌ للآلام والندوب، أن الناس لا يتغيرون وإن أحببتهم مراراً وتكراراً وتوقع عقلك الباطن وحلمت بتلك اللحظة التي تأتي ليخبرك أحدهم بأنه يعلم بما تسبب لك به من صعوبات ومعاناة وتُفتح صفحة جديدة وتصبح الدنيا “بمبية”. أن هذا الألم مقدر لك لأسباب لا تعلمها وتجهل حكمتها لكنها جزء من قدرك وجزء من تجربتك المحتمة عليك سواءً ركلت وعارضت وقاومت ذلك بكل ما أوتيت من قوة وطاقة أو رضيت واستسلمت.

أعلم ذلك كله، لكنني أشعر أنني أصبحت في منطقة شديدة الرمادية، فلست غاضبة ولا متمسكة، ولكنني لست متأملة ولا متفائلة في الوقت ذاته. أرغب في أخذ مقعد المتفرج ومشاهدة الشريط يمر من أمامي، لا أرغب في القيام بأي فعل أو اتخاذ أي قرار ولا أمتلك الطاقة لذلك.
أعلم أن عملي خالٍ من المعنى والمتعة بالنسبة لي وبأنه يساعد في إثارة كل مكامن الضعف لدي، لكنني لا أود الهرب هذه المرة باستقالةٍ أو طعامٍ لا يضيف إلى صحتي أو اختباءٍ وانطفاء، لأن ذلك لا يغير من الواقع شيئاً فكل مرة أعود للاصطدام بذات الجدار. هل هناك حلولٌ أخرى؟ لا أعلم.

أشعر أنني حاولت كثيراً في كل الاتجاهات، ولا أستطيع التمييز ما إذا كان هذا استسلاماً وتسليماً إيجابيين أم يأساً، ولا أستطيع إنكار خوفي من هذا الشعور ومن تلوينه لي.

الله يبعتلكم أيام ملونة بألوان مبهجة

أول أسبوعين من الإجازة- كانون الأول

هكذا بدأ أول يوم إجازة قبل أسبوعين: استيقظت من النوم بحماس لتجربة سوبرماركت جديد لشراء الاحتياجات كنوع من التغيير. على الرغم من أنني لا أنام مبكراً إلا أنني أحاول الاستيقاظ قبل الساعة الثامنة لمحاولة استغلال أيام وساعات الإجازة بأكبر قدر ممكن.
كان يوماً هادئاً بطيئاً كما أحب، الشمس شبه غائبة منذ الصباح. بعد العودة وترتيب الحاجيات استلقيت للعودة لقراءة ما بدأته قبل شهرين تقريباً وصوت المطر المنهمر يملؤ المكان.

إلا أن بقية الأسبوعين لم يكملا على نفس الوتيرة، فالركض كان مستمراً بين محلات الأثاث لأنني أرغب في إنهاء التأثيث قبل العودة إلى العمل وبين محاولة إنهاء أوراق العمل التي ازدادت صعوبتها مع التقدم في البرنامج التدريبي وبين ترتيب وجرد المنزل، حيث سأكون في مكان زميلتين عندما أعود إلى العمل الأسبوع المقبل، وكانت هذه الفكرة مقلقة لي طوال الوقت. لا أدري ماذا أطلق على هذه الحالة: القلق من العودة إلى العمل أثناء الإجازة.

لم أقم بتجربة أطباق جديدة، بل تقريباً لم أقم بطهو أي أطباق مطلقاً.

في المقابل كان هناك بعض اللحظات اللطيفة التي أحاول التمسك بها: الركض خلف ابنة أخي التي تبلغ العامين في الحديقة وتأمل الفضول الفطري والدهشة اتجاه كل شيء، بدءاً من ورق الشجر الملقى على الأرض وحتى تجربة غمس قدمها في الطين المبلل حول النخيل ومحاولة دفن وجهها في ورق نبتة الصبار، زيارة مقهاي المفضل صباحاً لتشجيع نفسي لكتابة أوراق العمل، الاستيقاظ دون منبه، إعداد كمية كبيرة من البراونيز المحلى بالتمر (أستخدم شوكولاتة داكنة بنسبة 90%)، إنهاء الليالي الشتوية بكوب من مشروب الشوكولاتة الساخنة بكريمة جوز الهند، وجدت الدولاب الذي أرغب به منذ مدة بالصدفة والمناسب لركن القهوة والشاي في صالة الجلوس والمصنوع من الصدف الأبيض المختلط بالصدف الذي يتموج لونه بين الرمادي والأزرق.

أحاول التمسك بأي شيء يدفع عني هذا القلق الذي زارني قبل عدة أشهر ويأبى مفارقتي، تزورني لحظات سكينة متفرقة بعد محاولات حثيثة لتهدئة النفس، أحاول الهرب باستمرار من الضجيج وإيجاد أماكن هادئة، لكن كيف السبيل للهرب من الضجيج المستمر في رأسي وبين جوانبي؟

استيقظت اليوم على رسالةٍ من مديري السابق يطلب مني عقد اجتماع مع رئيس القسم لعرض عمل قمت به سابقاً، استفزتني الرسالة لأنني في إجازة ولأنها كانت رسالة خالية من الذوق لا سلام فيها ولا أدب طلب بل أمر جاف، توترت كثيراً وقررت الرد بأنني سأقوم بذلك الأسبوع القادم لأنني في إجازةٍ حالياً. أشعر أن علي الاستقتال لمقاومة محاولة التعدي على وقتي الخاص وحياتي، ليس هناك تسمية أخرى لتجميل ذلك خاصةً أن السواد الأعظم يقبل هذا التعدي، يرحب به ويمجده.

أحاول مقاومة الرغبة في ترك كل شيء والهرب وهو ما أجيده، عل الناتج يتغير هذه المرة بإذن الله.

الأسبوعين الأخيرين من تشرين الثاني

بدأت في كتابة هذه التدوينة منذ أسبوع ولم أتفرغ لإنهائها حتى الآن.

أستيقظ صباحاً وأحاول تشجيع نفسي: بقي يومان على الإجازة.

وكأن الإجازة هي الحل السحري المُنتظر. أعتقد أنني قد أكون “أدمنت” شعور الهروب من كل شيء عندما لا أعرف كيف أتعامل معه. أمس أثناء حديثي، رأيت الشريط الطويل أمام عيني: كل مرة أبدء عملاً ما، وبعد البداية بمدة ليست بالطويلة أبدء بالشعور بالاختناق، أشعر وكأن جزءاً من روحي وعقلي وقلبي يضمر بالتدريج مع محاولة إخضاع عقلي ونفسي لحدود العمل.

نعم أعلم أن العمل وسيلة لعدة أمور: الاستقلال المادي الذي يوسع الخيارات (وإن كانت هذه النظرة قد تغيرت بعد عدة تجارب مريرة، فالرزق المكتوب مكتوب وقد رأيت أناساً أحبهم أغرقوا أنفسهم في الأعمال رغبةً في الاستقلال والاكتفاء ليستيقظوا بعد عشرات السنين وقد فاتهم من النظر في أنفسهم والبحث فيها وفي الكون ما فاتهم، ولا تزال ذات الأسئلة عالقةً لديهم). هل لدي حل آخر لهذه المعضلة الكونية في هذا الزمن والتي يعاني منها العديد غيري؟ لا، لكنني أشعر أن هذه الوسيلة أصبحت تغرقني وتغرق تقريباً كل من أعرف.

اليوم، جائت في طريقي مقالةٌ أعتقد أنها دلتني على جذر هذا الصراع: عدم أنسنة أماكن العمل، إن صح التعبير.

“تشييء” الإنسان لتصبح قيمته كفردٍ مرهونة بالمهارات التي يمتلكها والتي تجلب المزيد من المال لأصحاب العمل، فلا يهم كونه لطيفاً مع الخلق يتعاطف معهم ويحسن إليهم طالما أن ذلك لا يؤدي إلى زيادة المبيعات. وضع الإنسان في هذه الدائرة من خيارات يختلف ظاهرها لكن باطنها متشابه، تأخذ به بعيداً عن جوهره ومعناه.

أو على الأقل، هذا الإحساس الذي ينتابني ويستمر موجوداً. لكنني لا أريد الهرب هذه المرة فقط من أجل الهرب لأن الكرة تعاد في كل مرة.

انتهى أسبوع العمل أخيراً باجتماعٍ مع صديقات المدرسة، هذا الاجتماع السنوي الثالث عشر بعد التخرج، تسبقه سنوات الدراسة منذ الصف الأول الابتدائي. غريب كيف أنه في كل اجتماعٍ سنوي نعود وكأن هذه السنين الطويلة لم تنقضِ، على الرغم من كل ما مرت به كل واحدة منا على حدة، يعود الضحك والمزاح المستمرين، الأحاديث المتداخلة والأصوات المرتفعة. كان يوماً ممطراً والجو شديد اللطف.

لا أزال أحاول تعويد عقلي أنه ليس هنالك ما يقلق عليه، ليس هناك مواعيد فائتة ولا مهام مطلوبة فأنا في إجازة لمدة ثلاثة أسابيع (أحاول ألا أفكر فيما يليها). ياه، يا للسلام الذي يصطحب هذه الفكرة. أشعر وكأن رئتي تتوسع لتستعيد القدرة على التنفس مرة أخرى.

متحمسةٌ جداً للعودة للتدوين بشكل يومي إن شاء الله، لترتيب مكتبتي وإكمال تأثيث المنزل، تجربة أطباق جديدة، رؤية الصديقات، مشاهدة وقراءة ما فاتني، الجرد السنوي للملابس، والأكثر من ذلك استشعار هذا السكون الذي تتوق روحي إليه.

عدت للاستمتاع بالجلوس فقط والاستماع للست والابتسام للانتشاء بمزيج الكلمات واللحن والأداء
يا حبيبي طاب الهوى ما علينا

الأسبوع الثاني من تشرين الثاني

لا أفضل بث الكثير من المشاعر الغير لطيفة من خلال ما أكتب، لكن هذه الفترة من حياتي تتضمن العديد من التجارب النفسية الشاقة، ولا أرغب في إعطاء كتاباتي طابعاً غير واقعي، لأنني أذكر نفسي أن هدفي من الكتابة هنا دون استخدام اسمي هو أن أعبر دون أن أحمل هم التوقعات المسبقة وأن تكون كتاباتي حقيقة لتوثيقها والعودة إليها بعد سنين.

مع مرور الوقت والزمن يتأكد لي مراراً وتكراراً أن الركض لا يناسبني ولا يلائم طبيعتي. والآن تأكد لي ذلك أكثر من أي وقتٍ آخر، الاستقياظ بفزع من قائمة مهام العمل الطويلة والخوف من نسيان بعضها، تفقد دفتر المهام مراراً وتكراراً، الغرق بين رسائل بريد العمل التي لا تتوقف بل تزداد، عيناي التي أصحبت تحتويان على نقاط حمراء بسبب الجفاف وصداع محاجر الأعين الناتجين عن التركيز على الشاشة منذ الاستيقاظ وحتى النوم، عدم الاستمتاع ببطء أيام نهاية الأسبوع وصفاء الذهن فيها، الهرب من الارتباطات الاجتماعية حتى تلك التي أحب وأفتقد والتي تمدني بالطاقة لأن ذهني في الوقت حالي ينظر إلى كل شيء كأنه مهمة أخرى تضاف إلى القائمة.

أعتقد أن سلواي في هذه الفترة أن هذا كله مؤقت، ستعود مديرتي بعد أسبوعين وسينتهي برنامج التدريب بعد خمسة أسابيع، ستمر هذه الفترة إن شاء الله.

في إجازات نهاية الأسبوع وفي الوقت الذي أسترقه مع من أحب أكتشف افتقادي للاتصال البشري خارج نطاق العمل، يوم السبت زرت أحد الأحباب، تناولنا الإفطار وجلسنا عدة ساعات تحت ظل شجرةٍ كبيرة، كانت جلسة سُكبت فيها القلوب، فحيح الأشجار، الشمس والهواء. أحسست بأنني ابتعدت عن هذه الدوامة وشعرت أن روحي كانت عطشى لمثل هذا.

يوم الأحد لم يكن سلساً منذ بدايته فقد بدأ بمشكلة مع مديري السابق لأنني طلبت منه عدم إرسال طلبات جديدة لي لأن مديرتي الحالية في إجازها والقسم جديد ولا يوجد أحدٌ آخر يقوم بجميع المهام المتعلقة بتأسيس القسم وتلك المتعلقة بالأعمال والمهام اليومية.

بعد صلاة العشاء وتناول الغداء، تعرضت لصدمة لم أتعرض لها مسبقاً، أثناء مشيه فقد زوجي وعيه فجأة وسمعت صوت ارتطام جسده بالأرض، ركضت لمصدر الصوت ووجدت رأسه ووجهه غارقين في الدماء، أصابتني حالة من الهلع ولوهلة ظننت أنني أتعرض لأسوء كوابيسي ومخاوفي، لا أتذكر ماذا قلت أو فعلت لكنه بدأ في استعادة وعيه وبدأت في ارتداء عبائتي سريعاً لأخذه إلى المستشفى، طلب مني الاتصال بأخيه لفعل ذلك لأن أعصابي تتعرض لضغط شديد ولا يجدر بي أن أقوم بالقيادة في هذا الوضع. بعد ذهابه إلى المستشفى قمت بتنظيف أرضيات المنزل التي انتثرت فيها الدماء، وبعدها بدى كل شيء بطيئاً وبدت كل حركة تتطلب مني جهداً عظيماً للتفكير بها.

لم أرغب في الاتصال بوالدتي فهي لم تعد صغيرة في السن والوقت لم يكن مبكراً ولم أتمنى أن أكون سبباً في تعرضها لقلق شديد في هذا الوقت خاصة أنني لم أستطع التوقف عن البكاء على الرغم من معرفتي أنه بخير والحمدلله وأنهم قاموا بعمل جميع الفحوصات اللازمة للقلب والدماغ والأغلب أنه كان هبوط ضغط مفاجئ واحتاج خياطة بسيطة. لكن صدمة الشعور الأول بقيت عالقة معي ولم أستطع تجاوزها، ومن ثم صدمة اكتشاف أنني إن لم أتصل بأمي بحثاً عن الراحة في الحديث معها عما حدث فإني لم أجد أحداً آخر تسمح علاقتي به بفعل ذلك.

هل بالغت في الحفاظ على مسافات في جميع علاقاتي حتى تلك القريبة منها، خوفاً من الحب والفقد، خوفاً من أن أثقل على أحدهم لأجد نفسي في نهاية المطاف وقد كبلتني مخاوفي وحجبتني عن القدرة على الاتصال البشري الطبيعي؟

أتأمل أحد أقربائي الذي قارب السبعين وأفكر: كيف يشعر وقد تجنب محاولات الآخرين للاتصال معه بحضن أو كلمة دافئة أو لمسة يد حانية لما يزيد عن خمسة عشر عاماً؟ كيف يمكن لأحدهم أن يقسو على نفسه لهذا الحد ويحرم نفسه من قرب التواصل البشري؟ أن يخاف ويجد من يطمئنه ويتحدث إليه؟

وأشد ما أخافه هو أن أفعل في نفسي يوماً ما فعل، لأن بالتأكيد كانت بدايته تدريجية، كان هناك الكثير من “منطقة” العلاقات والمسافات “الآمنة” في ظاهرها.

أعتقد أنني أرغب في كسر هذه الحواجز التي وضَعت بعضها ووُضِعت لي بعضها، أرغب في أن أسمح لنفسي بإظهار ضعفي وخوفي ومحبتي، حتى وإن خذلت وإن فقدت وإن تألمت، لأن هذا كله جزءٌ لا يتجزء من المحبة والشعور بالآخر ومن التجربة الإنسانية التي نخوضها، وأعتقد أن هذا الألم أخف وطئاً من قسوة العزلة النفسية والفردانية التي تعززها طبيعة الحياة الحالية.

أنار الله قلبي وقلوبكم بالمحبة والطمأنينة والسكينة وغمرها بألطافه.

الأسبوع الأول من تشرين الثاني

مضى ما يزيد عن أسبوعين منذ آخر مرةٍ كتبت فيها، هي أقرب للشهرين منها للأسبوعين لأنها حوت أحداثاً كثيرةً متسارعة الوتيرة مصيرية، لذا قد تطول هذه المدونة.

انتقلت لقسم آخر بشكل رسمي وكنت شديدة الانشغال لأني لازلت لم أقم بتسليم مهام القسم السابق نظراً لعدم وجود موظفين كافين لذلك، كما قام العمل مشكوراً بإلحاقي ببرنامج تدريبي مثير للفضول في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، هي أول تجربةٍ لي في نظام تعليمي آخر، وعلى الرغم من أنني لا أشعر بالوقت أثناء التعلم لأن طريقته تدريجية تعتمد على التفكير النقدي والتحليل، إلا أن أوراق العمل الأسبوعية التي علي تقديمها تتطلب جهداً كبيراً مني لأن أساليب التعليم التي اعتدتها هي الحفظ والتلقين لا الاعتماد على التحليل والنقد.

المؤسف أيضاً أن البرنامج ينتهي بانتهاء إجازتي التي ستبدأ بعد ثلاثة أسابيع إن شاء الله والتي أنتظرها على أحر من الجمر لأنني لم آخذ إجازة تزيد عن خمسة أيام منذ أن بدأت عملي الذي يسبق هذا في بداية عام ٢٠١٨، وكانت جميعها أسابيع متقطعة إما للانتقال من وإلى المنزل أو للدراسة لاختبارٍ ما.
لكني أهون على نفسي وأقول على الأقل دراسة دون مهام عمل، وأحاول التركيز على الامتنان لهذه الفرص

تعلمت أموراً عديدة جديدة عن صحتي التي لم تتحسن في نواحٍ عدة على الرغم من حرصي على كل ما يدخل جوفي وعلى الحركة والرياضة. يذهلني ارتباط الصحة الجسدية بالصحة النفسية، وأثر القلق طويل المدى على جميع أجهزة الجسم.

أعتقد أنه مضى ما يزيد عن شهرٍ منذ آخر مرة حضرت فيها جلسة مع الأخصائية النفسية، وهي أطول مدة أنقطع فيها عن ذلك منذ بداية الجلسات منذ عامٍ ونصف، كانت لدي مواعيد أخرى تقع في صباحات السبت ولم أرغب في حشر كل شيء لأنني أشعر بأنني أركض خلال الأسبوع وفي نهايته أيضاً دون توقف. النتيجة كانت أنها بالطبع لم تحتفظ لي بوقت موعدي وعندما تواصلت معها اليوم لأسألها عن إمكانية أخذ موعد أبلغتني بأن جميع الأوقات غير متاحة ما عدا صباحات أيام الأسبوع التي أعمل فيها ولا أستطيع الامتناع عن تلقي مكالمة أو دعوة لاجتماع ما خلالها.

حقيقةً لم ألحظ أثر الحديث أثناء الجلسات إلا حين انقطعت عنها، أشعر أن عقلي وقلبي يطفحان بالأحاديث والأفكار والتشابكات، أصابني توتر شديد حين أخبرتني بذلك وخفت من فكرة البقاء مع نفسي بنفسي مدة أطول دون أن ألقي بالفائض في مكانٍ ما. لمتُ نفسي على إلغاء الجلسات السابقة ولكنني كنت أشعر بالحاجة لعدم الركض سوى لموعد واحد يوم السبت.

العلاقة مع المعالج النفسي شديدة التعقيد، فهو الشخص الذي ستسكب له ما في جوفك وكل ما بقي في ذاكرتك منذ أن وجدت على وجه البسيطة، ستفصح له عن أشياء لم تتحدث حتى مع نفسك عنها، وليس كالغريب الذي تقابله مرةً وتخبره بعدة أمور ثم لا تراه مرةً أخرى، بل ستستمر في رؤيته إلى مدة قد تصل إلى عدة سنوات. لكن عليك في نفس الوقت أن تحافظ على مسافة نفسية كافية تمنعك من التعلق فيه كشخص أو أن تتوقع وجوده لأن العلاقة هي علاقة عملٍ كالعلاقة مع الطبيب مثلاً. وهذا أمر شديد التعقيد أشعر بثقله الآن، وكأن أحدهم قام بضغط جميع الأزرار الخاصة بآلة ما دفعة واحدة فأصبح جهاز الإنذار لا يتوقف عن الرنين. لا أعلم إن كانت هذه نوبة قلق حادةً أخرى.
أعتقد أنني أمر بجميع مشاعر التخلي والترك الجذرية التي مررت بها منذ طفولتي، يعود إلي افتقاد الثقة في وجود الآخرين وقدرتي على الاعتماد على ذلك، وأعود للانكماش على نفسي.

أضطر للحديث مع نفسي كطفل لحوح شديد الاستعجال يخاف كل شيء. أحاول تفكيك شعور القلق الغامر هذا والتعامل بمنطقيةٍ معه: سأحاول الاستمرار في الكتابة، الأمور ستكون على ما يرام في النهاية، سأستطيع التماسك ولن أعود لنقطة الصفر، سأحاول إيجاد ما أتشبث به عندما تثقلني روحي ويثقلني وجودي. لا أملك إلا أن أستمر.

الأسبوع الثالث من تشرين الأول

كتبت أربعة تدوينات لم تكتمل ولا أعتقد أنها ستكتمل، كانت يوميات تدل على أيامي الأسبوع الماضي. كان أسبوعاً منهكاً على جميع الأصعدة فقدت نفسي خلاله واستعدتها عدة مرات.

تلقيت خبراً من أحد الذين يهمني أمرهم وهو أمر له وقع شديد الأثر على حياتي كذلك، الخبر كان وقعه سيئاً جداً على هذا الشخص كما أن الطريقة التي حصل له بها كانت مهينة له جداً. أعتقد أنها المرة الأولى التي يكون فيها احتكاكي مع شعور القهر بهذا القرب ولا أملك أن أفعل شيئاً، وأخذني ذلك إلى رحلة داخلية دون إرادة مني.

تذكرت دعاء الحبيب عليه الصلاة والسلام حين خرج من الطائف وقد أوذي، ثم تذكرت العديد من المواقف الشبيهة التي حصلت له وهو المؤيد والموحى له. ياه، ربما هذه هي المرة الأولى التي أراها من هذا المنظور الشخصي الإنساني، كيف أنه أوذي كثيراً من القريب والبعيد والوحدة التي يبعثها هذا الأذى، وأن أذى الشخص من الغير لا يحدد مرتبته ولا منزلته الحقيقية.

أثناء الاجتماع العائلي، أنظر إلى قطعة الدجاجة المشوية التي أتناولها، أشعر أن شكلها شديد الغرابة، أحياناً تبدو الأشياء والأسماء التي اعتدت سماعها أو رؤيتها غريبةً عندما يكون ذهني مشغولاً بتفكيك أمر معقد وبمحاولة الانشغال وابتلاع القلق.

أراقب الشارع أثناء تحرك السيارة، يبدو كل شيءٍ خالياً من الروح، الأماكن مكتظة والبشر كثيرون، لكن كل شيءٍ يشبه بعضه، الأصوات والألوان والتصرفات.

أراقب انعكاس الشجر من النافذة على شاشة الجوال، أشعر أنني أرغب في الجلوس في مقعد المتفرج، لا أرغب في التحرك، الكثير من الأمور التي تحصل تبدو غير منطقية، أتأمل وجه الأحبة، أحاول الاحتفاظ بوجوههم واستشعار نعمة وجودهم ومقاومة هذه الأيام الثقال بذلك.

تتزاحم مقاطع من الآيات في ذهني دون إرادة مني تثبت فؤادي. أشعر برفاهية القدرة على مناجاة ملك الملوك المتصرف في المخلوقات جميعها في كل وقت، أحاول الوصول مع نفسي إلى هدنة مع حقيقة أن الحياة أصلها التغير وعدم الثبات، والتغير له أشكالٌ عديدة غير مريحة في كثير من الأحيان.

أستشعر نعمة أن يكون لي منزلٌ أعود له ويحتويني في نهاية اليوم، أبتعد فيه عن كل الأصوات الخارجية والزحام، ألملم شتات نفسي فيه، أطمئن وأسكن إليه.

الأسبوع الثاني من تشرين الأول

الأسبوع الماضي أصابني “فيضانٌ” من القلق لا يزال مستمراً. قلقٌ لا يتوقف: من أول فكرة عند الاستيقاظ من النوم مروراً بكل ما أقوم به وحتى الخلود إلى النوم وأثناءه.

حتى إن نسيت ما يقلقني وانشغلت بالحديث أو القراءة، إلا أن ذلك الشعور الذي يملؤ الحلق كأنياب طويلة مغروسة والصخرة الضخمة التي تجثم على معدتي لم يفارقانني.

أحاول تفكيك الأسباب مع نفسي وأحاول أن أتلطف معها على الرغم من غضبي الذي إحاول إنكاره اتجاه ضعفي النفسي وعدم مرونتي الداخلية. أحياناً أشعر أنني عبارة عن “رضَّةٍ” ضخمة تمشي على قدمين، كلما لفحها شيءٌ أو لمسها يجزعها الألم.

إلا أن القلق كان كل ما هو حاضر ومسيطر. لم يصبني هذا النوع من القلق منذ مدةٍ طويلة وينهكني التواجد معه، نهاية الأسبوع الماضي كانت مليئة بالمهام والزيارات ولم أستطع تهدئة هذا الجرس الذي يرنّ بشكلٍ مستمرٍ في رأسي.

يبدأ صوت الجرس بالخفوت مع يوم السبت وذلك لانقطاعي يوماً كاملاً عن العمل، ثم يعود بقوةٍ مع بداية الأسبوع والعمل. حقيقةً لا أعرف كيف أصف هذا الشعور وتقلقني غرابته، هو ليس قلقاً خالصاً بل مزيجٌ من مشاعرٍ تملؤني بالذهول ولا أعرف كيف أتعامل معها أو أصنفها أو حتى ألمسها.

يوم السبت كان أكثر الأيام لطفاً معي، استيقظت باكراً للذهاب إلى موعد طبي، بعده تناولت الإفطار في مكان نباتي صرف لم أزره سابقاً، كان هادئاً وكل من كان هناك إما يعمل أو يقرأ أو يتحدث بصوت منخفض، الموسيقى لطيفة جداً وهادئة والطعام لذيذ ومكوناته نظيفة. في المساء كان الاجتماع الشهري مع إخوتي والذي قررنا عمله ابتداءً من هذا الشهر مع حجز التواريخ المسبق للشهور القادمة، كان اجتماعاً خفيفاً لطيفاً مليئاً بالضحك والذكريات والأحاديث آنسني وأنساني هذا الممر الضيق الذي أمر به.

اليوم انفعلت لأول مرة خلال عملي هذا على موظف في قسم آخر لأنه ابتدء في رفع صوته أثناء حديثه معي دون أن يترك لي فرصة للحديث، فلم أتمالك أعصابي وانفعلت بدوري. أعرف أن هذا أمر صحي إلى حد ما لأن هناك أفراداً يتعلمون حدود الآخرين بهذه الطريقة فقط، لكنني أفضل أن أتمكن من تمالك أعصابي وإخباره بأنه إن لم يخفض صوته ويتحدث بأدب فسأقوم برفع شكوى إلى مديره. يُشعرني الانفعال أنني ركضت أميالاً عديدة، ثم يصيبني الغضب من نفسي لأنني أشعر أن الانفعال هو ضعف وانكشاف إلى حد ما بدلاً من القدرة على تمالك الأعصاب والهدوء. أُعتبر شخصاً هادئاً إلى حد كبير ولا أحب الأصوات العالية ولا الأشخاص سريعي الغضب، لكن إن انفعل أحدهم علي أو تعدى على حدودي خاصةً إن لم يكن أحد أصحاب الحقوق علي وأولئك الذين تغفر لهم محبتهم فلا أملك إلا الانفعال في المقابل دون تفكير.

أتمنى أن يغمر حياتي وحياتكم الهدوء والرفق والطمئنينة واليسر

الثاني عشر من تشرين الأول

أمضيت أيام نهاية الأسبوع الماضي في التحضير لعودتي إلى العمل من المكتب بعد انقطاعٍ لمدة ثمانية أشهر تقريباً، وبالطبع كنت قد نسيت الوقت والجهد الضروريان للقيام بذلك.

أصبح وقتي يُستغرق في تحضير وجبة الإفطار المتكاملة لأخذها للعمل، أعود لعمل الغداء وتناوله والقيام ببعض مهام المنزل لينتهي اليوم تقريباً على الرغم من أنني أستيقظ في الرابعة والنصف صباحاً إلا أن الوقت أصبح يتسرب من بين يدي.

اجتمعت اليوم مع مديري ومديره وكالعادة تلفظت بأمورٌ سببت لي ندماً وإحراجاً بعدها. أستطيع الكتابة بطلاقة وفصاحة تتفوق على حديثي بمراحل إضافةً إلى الحديث مع المقربين ممن أحب أو الحديث بشكل منطقي رسمي بحت، أما الأحاديث التي تضيع بين الرسمية واللباقة المفتعلة فلا أحسنها أبداً مهما حاولت.
كلما تذكرت الموقف ينتابني مغص الإحراج ويتكرر بتفاصيله.

تأكد لي خلال اليومين الماضيين أنني لصحتي النفسية والعقلية والجسدية أحتاج لأن أتواجد في مكان تدخله أشعة الشمس أثناء تواجدها خارجاً لأن مكتبي يتواجد في بقعة لا تدخلها الشمس من أي مكان، أحتاج لأن أتصل بنفسي وأتواجد معها في مكان دافئٍ مألوف “ملموم”، إلى الشعور بالإنجاز وهو حقيقةً ما كان ينتج عن بقائي في المطبخ عدة ساعات والاستمتاع بالطبق بعد ذلك أو بالكتابة أو بالقراءة أو المشي خارجاً بعد الشروق. وبعد توقف ذلك جله دفعةً واحدة أصبحت أعود من العمل بمزاجٍ سيءٍ منخفض جداً وطاقة منعدمة للقيام بأي شيء. أتخيل أنني إذا كنت أقطن في مكان من المعتاد فيه الجري في مكان مفتوحٍ دون مضايقات كنتُ غالباً سأحمل ملابس الجري معي دائماً في السيارة لأذهب بعدها وأجري أميالاً عدة لأفرغ الغضب والإحباط الشديدين اللذان يعتريانني وأتصل بالهواء والطبيعة التي تتعطش روحي إليهما.

أعتقد أن عليّ إيجاد قائمة للاستماع إليها لتحسين شعوري أثناء مشوار العودة من العمل، فالقوائم الحالية أصبحت مزعجة جراء تكرارها الدائم.

أحتاج إلى الوصول إلى نقطة تصالح مع العمل من المكتب، لا تزال لدي ثلاثة أسابيع متقطعة علي أن أعمل خلالها من المكتب حتى نهاية العام وبعد ذلك قد تتم العودة بشكل كامل. بالطبع هذا أفضل بكثير من استمرار ذلك بشكل متصل خلال جميع المدة المتبقية، لكن شعور الملل الذي بدأ في “أكل دماغي” من مهام العمل المتكررة بدء في التأثير على شعوري بكل شيء، باللاجدوى، وبالتصادم مع ذات النقطة بشكلٍ دائم في كل عمل شغلته حتى الآن.

أتمنى أن أجد يوماً الثقب في هذا الجدار.