من أنا؟

لا أعرف كيف أعرف نفسي.

لطالما احترت-ولا زلت- عن كيفية فعل ذلك، هل أنا اسمي، تخصصي، مهنتي ومسمايَ الوظيفي، أم أن نشأتي، بيئتي وجيناتي هي التعريف الأدق لي؟ هل أنا المدينة التي ولدت بها أم أنني المدينة التي يعود إليها أصلي؟

أشعر بالانتماء إلى كل شيء ولا أنتمي إلى أي شيء.

هل أنا من أكون عليه أثناء وحدتي، أثناء عملي، أم مع الآخرين؟

لازلت أتعثر في محاولة التعرف إلى نفسي وإيجاد نقطة توازن لي، نشأتي التي حملت التنوع والعديد من الأضداد جعلتني أتقبل المختلف ولا أنكره أو أستنكره لأنني كنت العديد من المرات أمثل ذلك “المختلف”.

وبالتالي أنا هي جل تلك الاختلافات والتنوعات والأضداد، درست الجامعة وتخصصت في تخصصي هرباً من الروتين ووقعت فيه، لا أزال أتنقل بين الوظائف والأماكن في محاولة لإيجاد ما يناسبني، وأفعل ذلك في حياتي أيضاً.

كانت دائماً المدونات والكتب عامةً مرجعاً لي عندما أشعر بعدم الانتماء، أطمئن إلى أن ما يدور في حياتي ونفسي لا يقتصر علي باختلاف أشكال وقوعه في حيوات أخرى، وأجد في الكتابة مستراحاً لي، لذا قررت بدء هذه المدونة وهو الأمر الذي أجلته سنيناً طويلة تردداً مني لعدم ارتقاء جودة كتاباتي ومواضيعي إلى مستويات المدونات التي أتابعها.

لذا آمل أن يجد من يقرأ هذه المدونة سلوانا وسلوَاً كالذي كنت ولا زلت أجده في المدونات والكتابات الأخرى. استرسلت في التعريف عن نفسي حتى خرجت عن صلب الموضوع، وهو ما ستجدونه يتكرر هنا كثيراً للأسف.

بهتان

أحاول مقاومة مرحلة “البهتان” هذه، وكأن كل ما جرى العام الماضي من الأعاصير والفقد قد أفقد الأشياء الكثير من لونها. أقرب لصمتٍ مدوٍ يلفّ كل شيء، ليس صمتاً فيه سَكينة، بل صمتٌ مريب.

أو أن الأشياء التي كنت أجدها “ملوّنة” لم تعد هي نفسها، تبدّلت أماكن الأشياء في نفسي وأحاول إعادة التعرّف على ما الذي يعيد للأشياء الرماديّة بعض اللون. على الرغم من أن الصورة الذهنية لل”بهتان” هي خفوت اللون وضعفه، إلا أن عصراته مفزعة، تشتد قبضته أياماً وأوقاتاً وترتخي ساعاتٍ أخرى.

أبحث داخل نفسي عن الوجهة الجديدة، لأنني أصبحت “أستوحش” القديم، أو ما كنت أعرف وأألف، الطريق اختلف وكذلك خارطته وغايته ورغباته، فالرغبات والغايات أصبحت فجأةً فراغاً خاوٍ (أجد أن هذه أفضل ترجمة لvoid)، وهذا أكثر ما يخيفني. أذكّر نفسي بأوقاتٍ ظننت فيها أني وجدت ما أبحث عنه، وأوقاتٍ أخرى كنت أتمنى حصول أمورٍ وأخطط لها ولي باعٌ وجَلدٌ على التمني والبدء بخطوات صغيرة، محاولةً مني لتحريك هذا الفراغ المُصمت في نفسي، لكنني أشعر أنني كنت شخصاً آخر، فتزيد الغربة في نفسي عن نفسي.

أظن وأتمنى وأدعو أن تكون هذه مرحلة تسبق مرحلة الاكتشاف، الركود الذي يسبق النشاط المثمر، والهدوء الذي يليه حركة منعشة، والصمت الذي يعقبه حديث طيّب وضحك وأصوات فرح، والعتمة التي تكون نهايتها نور، والضياع الذي ينتهي بثباتٍ راسخ حكيم.
لا لأي شيء سوى أني أمَةٌ لرب كريم وظني فيه هو كل خير، مهما طال الألم وبدا بلا نهاية وغدت الظلمات فوق بعضها، ومهما غابت الحكمة عن فهمي القاصر، ومهما ضِقت وتُهت وأغلق الباب تلوَ الباب، وترك الفقد طعمه على كل شيء، إلا بابه سبحانه وباب دعائه ومناجاته، وكلّ ما وجهني لذلك هو خير مهما كان ظاهره. فهو سبحانه الذي أراد أن يكون هذا الألم المستمر سبباً في ألا ينقطع دعاءه من نفسي في صحوي وتقلبي في منامي، وهذا لا يمكن أن يكون إلا خيراً ممن هو الخير منه وإليه سبحانه.

أسأله الرّضا لي ولكم، وبرد يقينٍ يجعل الألم برداً وسلاماً، وإيماناً ثابتاً وحسن ظنٍّ لا يهزّهما أي حادث.

“فيَا ليالي الر​ّضا عليْنا، عودي ليخضرّ منكِ عودي 🌱”

فبراير-٢٠٢٣

في حصص العلاج الطبيعي والوظيفي اليومية في مركز إعادة التأهيل، كنت أقضي معظم وقتي في تأمّل المرضى ومرافقيهم، ومع مرور الأيام أصبح هناك نوعٌ من المعرفة المألوفة دون أي تواصلٍ أحياناً كثيرة، أستقرئ قصصهم وعلاقاتهم وحالاتهم.

أحدهم لا يتجاوز الثالثة عشرة من عمره وهو أصغر الموجودين في ذلك الجناح، يرافقه والده الذي لا يبدو صغيراً في السن وتبدو معاني الرحمة ظاهرة وواضحة في نظراته وتعامله معه وحنوه عليه، كانت اعتراضاته المتكررة على التمارين وتجاوب المُعالج مع تلك الاعتراضات بمناكفته تضفي بعض الحراك على قاعة التمارين الجامدة وترسم ابتسامات على أوجه الموجودين.
معظم التمارين التي يتوجب على الابن تكرارها تتسبب في ألمه إلا أنها ضرورية ليتمكن من استعادة قدرته على المشي بعد العملية التي أجراها، فكان المعالج والأب يتجاوبان مع شكواه منها أحياناً نادرة، وفي الغالب يقوم الأب بإسكاته بابتسامة: “أسسس، سوي اللي يقلك عليه ولا تتشكّى”، ويجيبه المُعالج أحياناً أخرى: “كل شي في بدايته مؤلم، بس لو ما أتألمت الآن مارح تقدر تمشي كويس، تبغى تمشي نص نص ولا ترجع تمشي كويس؟”

وأفكر بيني وبين نفسي: أحتاج لمعرفة متى أُسكت نفسي عن تذمّرها و”عنفصتها” ومتى أعرف أن ذلك سيؤدي بها إلى مواطن ضعفٍ تأتي على جبلّتها وتكوينها فتهوي بها.

وبشكلٍ عام كل ما كنت أفعله المدّة الماضية هي إسكاتها، لأنني إن استمعت إليها لرفعت يدايَ عن كل شيء ولم أقاوم للنهوض من السرير يومياً.

ينبع هذا الشعور بالغرق أنني قبل عدة أشهر وقبل الحادثة بأيام كنت على وشك اتخاذ قرارٍ مصيري سيغير شكل حياتي، أمضيت سنواتٍ في محاولة التأكد من صحته، وعندما حصل ما حصل بقيَ الوضع معلقاً لأن الوقت لا يناسب اتخاذ مثل هذا القرار بتاتاً فنتائجه لن تؤثّر علي وحدي. أصبح تعاملي مع كل ما حصل ليس ثقيلاً بسبب ما حصل فحسب، بل لأن قدمايَ ليستا ثابتتين على أرضٍ واحدة: بل قدمٌ تخطّت بوابة الخروج وقدمٌ لا تزال داخلها، وبالتالي أصبح الأصل في التعامل مع كل المُعطيات هي عدم الراحة، لأن الوضع حتى في حالة الثبات ومحاولة التقاط الأنفاس غير مريح.

في كلّ مرةٍ أكون فيها على وشك الجزم خلال الأعوام الماضية يحصل ما يعرّض اتخاذ القرار للشلل تماماً، استخارات وصلواتٍ ودعوات، أعلم قطعاً أن علمني وفهمي قاصرين، وأن ما أعتقد أنه أفضلٍ خيارٍ لي قد يكون الأسوء، والعكس كذلك. الإنسان كائن معقد، وعندما تمر تجاربي ونشأتي التي حوت على أضدادٍ لا تلتقي ولا تتقاطع مع المحيط العام والخاص على ذهني، أفكر ما إن كنت سأتمكن من إيجاد ما أركن إليه في هذا العالم أساساً.

أجلس على الكرسي إلى مكتبي ويرتفع صوتٌ شديد اللؤم: ها أنتِ تعودين إلى نقطة شبيهةٍ بنقطة الصفر تلك، ما الذي نفعتك به محاولاتك سوى تأكدك من أن كل شيء يسوقك إلى نفسِ النتيجة؟ ألا تستطيعين النظر إلى بداية القصة وامتدادها؟ كيف لذلك أن يتغير جذرياً خارج السنن الكونية؟
يبدأ الغباش يغطي معظم الشاشة، أشعر أن عينايَ أقرب لبئر طافحٍ، أبتلع ذلك وأكمل العمل في صمت.

تتدهور حالة خالي -رحمه الله- في أسابيع معدودة، أحجز لي ولوالدتي رحلة مساء الأحد الماضي بعد نهاية يوم العمل إلى جدة للسلام عليه لأن علامات المنازعة أصبحت بادية، نتلقى اتصالا​ً صباح الأحد من ابنته لتبلغنا خبر وفاته رحمه الله.
للمدن هويات معينة في النفس تأخذها من الارتباط مع قاطنيها، وجدّة في نفسي تعني بيوت الأخوال التي آلفها منذ طفولتي، المزحات المتكررة التي لا تتغير مع تقدمي في السن، تأمل والدتي وهي بين أقرانٍ يعرفونها ويعاملونها كشخصٍ موازٍ مساوٍ لا وفقاً لقوة شخصيتها -حفظها الله- ولا درجة علمية ولا منصب، فتنال من نصيب ذلك المزاح والمناكفة ما ننال. المعرفة المتشاركة الممتدة لأجيال، والشعور بأني جزء من هذا الامتداد التي قد لا أعرف تفاصيله لكني أشعر به يروي ظمأً أصاب الجذور دون أن أعي ذلك.

يتغير وقع هواء المدن في النفس، ويتبعها الشعور بالألفة اتجاه تفاصيل الواقع، ويصل ذلك إلى نفسي. أشعر بتغير أصيلٍ فيها، أجد نفوراً مما كنت أحب وآلف سماعه وقراءته ومشاهدته والحديث عنه، وإقبالاً وراحةً في وعلى غير ذلك.

من اللحظات الواضحة في ذهني هي جلوسي لبعض الوقت في الهواء الطلق في المركز، تأمل الكون والبشر الذين فقدوا بعض أو كل قدراتهم، بعضهم من ولِد كذلك والآخر الذي تعرض لعارضٍ تسبب له في ذلك، تمرّ على نفسي معانٍ مهيبة لا أستطيع وضعها بوضوحٍ في كلمات، معاني قدرةٍ وقهرٍ وهيبة وكمال وقوة مطلقة، ومعاني ضعفٍ ونقصٍ وقصر وانعدام حيلة.
وتتبدل الأحوال والأفهام في نفسي، يظهر كل شيء كحقيقة واضحة جلية حادة، كأن بصري ووجودي قبلها كان غباشاً، كقلم رصاصٍ مستهلك تعرض لل”بري” فأصبح شديد الحدة.

إنا لله وإنا إليه راجعون، كل ما عدا ذلك غباش ومُدخلات تجعل من كل حقيقة أمراً مُستبعد الحدوث، وتجعل الخيال أقرب للواقع منها.
أحاول فهم ما حدث بشكلٍ متتالٍ، أن كل متكأٍ ما أن أضع رحلي فيه حتى تغير وتبدل سريعاً، ويقع في فهمي أنها تخليةٌ للنفس وتثبيتاً للحقيقة وإن كانت ثقيلة.

لا يمكن للنفس أن تألف الاغتراب وإن اعتادته، ولا الألم وإن قَوَته، ولا اليأس وإن عجنها وعجنته، ولكن كل ذلك يمر برحماتٍ وألطاف خفية لا تدركها الأذهان.
“ربّنا ما خلقتَ هذا باطلاً”

اغتراب

أيامٌ أستيقظ فيها وأشعر بأني قادرة على التعايش مع مشاعر الفقد المستمرة التي أتمنى أن تخفّف الأيام حدتها، أشعر بنشاطٍ وأعدّ فطوراً طيّباً وأنجز مهامي دون أن أجرّ أقدامي لذلك. تكون هناكَ سَكينةٌ في نفسي تمكنني من الاتزان بين الألم والعمل.

وأيامٌ أخرى يفاجئني فيها شعورٌ حادٌّ بالحنين والذهول من تغير وتبدّل الأحوال المفاجئ، وتمر عليّ أحداث هذا العام ذهاباً وإياباً كآلةٍ معطوبة لا تستطيع الوصول إلى وجهتها. أمسك بالكوب لأملئه بالماء الحار، فيهبّ علي شعورٌ غير مريح خانق، اشتريت هذا الكوب قبل تسعة أشهر تقريباً، كنت في حالٍ غير الحال، وكانت لدي رغبات وآمالٌ، أشعر بضيقٍ لشعوري بأني شخصٌ مختلفٌ تماماً، أحاول أن أعيد تمسكي بأي رغبة كانت لدي ولا أتمكن من ذلك.

“فكأنها وكأنهم أحلامُ”، أجلس في اجتماعٍ متعلق بالاستراتيجيات والأهداف، كأن من يتحدثون ينتمون إلى عالمٍ مختلفٍ ومنفصلٍ تماماً عن عالمي، وكل ما يتفوّهون به يبدو فارغاً من المعنى والحقيقة والجديّة، كل شيءٍ يبدو مُفتعلاً. فكل ما هو حقيقي يقبع خارج هذه العلب، أو هكذا أشعر.

لديّ كما لدى معظم البشر عدّة أعمدةٍ من البشر كانوا متكّاً عندما تصبح الريح شديدة، وظلاً لطيفاً عندما تصبح الحرارة حادّة، فقدت أربعة منهم لأسباب مختلفة هذا العام، ولا أشعر أني قادرةٌ على استعادة توازني، أحدها فقدٌ أعيد استيعابه يومياً كلما حاولت محادثتها وهي بوعيٍ وقدراتٍ تختلف تماماً عمّا كانت عنه قبل عدة أسابيع، أحاول تقبّل أنها شخصٌ مختلف عما كانت عنه قبل الحادثة، ويتركني ذلك مع شعورٍ ممتد بالاستيحاش والشوق.

أميل للصمت حتى في حضرة الآخر الذي كنت أميل للتحدث معه، أجد رغبةً في التواجد في الأماكن المفتوحة فقط والنظر إلى خلق الله من غير البشر، ميلاً للقراءة والكتابة والعزلة. أحاول تلمّس مواضع الألفة لأن الاغتراب عن النفس والآخر والحياة يغمرني، ولا أكاد أجدها إلا في المناجاة المستمرة.

لن أقول أثقلتني الخسائر ولا الهزائم وإن كان يثقلُ علي حتى حمل جِلدي أياماً كثيرة، لأني أكرر إعادة تعريف الخسائر على نفسي أملاً في تغيير انطباع الأحداث عليها، فالآلام لا تعني الخسارة، وكلّ ما تسبّب في تقريبي إلى فهم حقيقة الدنيا وبأن تكون لي أورادٌ وأذكارٌ تحفظ عليّ نفسي وعقلي لم أتمسّك بها مسبقاً لا يمكن أن يكون باطنه إلا رحمة.

لكنّي أقول أن الألم شديد والأيام صعبةٌ ثقيلةٌ تكاد تجهز على أي شيءٍ طيّب في نفسي، أصبحت أتوجس من الاستيقاظ لأني أكون في صراع مستمرٍ حتى لا أفقد اتزاني تماماً، كنت أعتقد أني أكثر جَلداً ومعرفةً و”مدقدقة”، لكني لستُ سوى مخلوقٍ ضعيف لا يملك من أمر نفسه ولا الآخرين شيء.

أحاول تلمّس الطريق أمامي لكنّي لستُ أقوى على ذلك، أملي وسؤلي هو أن يغسل الرحمن سبحانه بالرّضا نفسي وقلبي، وأن ينزل عليهما سكينةً لا يهزها شيء، كلّما ضاقت عليّ نفسي أضع يدي على قلبي وأقرأ السبعة فواتح.

أذكّر نفسي أن كل ما حصل مجرّد أسباب، وأن ما أمرّ به مقدّرٌ عليّ ولي منذ أن كنت نطفةً، وأرجو ألا أتجاوز هذا إلا بقلبٍ أكثر رقّة ورحمةً ورضى لا قسوةً وجفاء.

“إلهي: كلُّ ما أقوله فأنت فوقه، وكلُّ ما أُضمِرُه فأنت أعلى منه، فالقولُ لا يأتي على حقك في نعمتك، والضمير لا يحيط بكُنْهك، وكيف نقدر على شيء من ذلك، وقد ملكتنا في الأول حين خلقتنا، وقدرت علينا في الثاني حين صرفتنا؟ فالقول وإن كان فيك فهو منك، والخاطر وإن كان من أجلك فهو لك، من الجهل أن أصفك بغير ما وصفتَ به نفسك، ومن سُوء الأدب أن أعرِّفَك بغير ما عرَّفَتني به حقيقتُك، ومن الجُرأة أن أعترض على حُكمك وإن ساءني، ومن الخِذْلان أن أظُنَّ أن تدبيري لنفسي أصلحُ من تدبيرك، كيف يكونُ الظنُّ صواباً والعجز مني ظاهرٌ والقدرة منك شائعة ؟ هيهات: أسلمتُ لك وجهي سائلاً رِفْدَك، وأضرعت لك خدي طالباً فضل ما عندك، وهجرتُ كل من ثناني إلى غيركُ، وكذَّبتُ كل من أيأسني من خيرك”
-أبو حيان التوحيدي – كتاب: تسبيحٌ ومناجاةٌ وثناء على مَلِكِ الأرض والسّماء

تدوينةٌ لا تناسب يومَ الخميس.

أحاول الاستسلام لغفوةٍ قصيرة بعد صلاة الفجر، من شروطها أن أقوم بفتح الستائر لكي تدخل أشعة الشمس عندما تشرق بشكلٍ كامل، وأن تكون على الأريكة وأن أكون لا أزال مرتديةً رداء الصلاة، أخادع نفسي بأن ذلك سيمنعني من الاستسلام لنومٍ عميق وبالتالي سيكون الاستيقاظ أسهل، إلا أن هذه الطريقة بالطبع تتسبب في نومٍ أعمق.

لكنني أعيد الكرة كل يومٍ تقريباً، وكأنني إذا لم أعد للنوم على السرير فلن يكون ذلك نوماً حقيقياً.

منذ عدة أسابيع ودون تخطيط مسبق وللتقليل من تراكم المهام بمختلف أنواعها، قررت بيني وبين نفسي أنني لن أستخدم وسائل التواصل الاجتماعي حتى أنتهي من جميع المهام سواءً كانت متعلقة بالعمل أو المنزل أو القراءة أو البحث أو الرياضة، ووجدت أن اليوم الأول انتهى تقريباً وأنا لم أنتهِ من جزئية القراءة التي يفترض أن أنهيها.

ثم فكّرت أنها ستكون فكرةً جيّدة أن أحاول عدم الدخول إليها أو استخدامها لأطول فترةً ممكنة، خاصةً أن المعطيات الحالية لسببٍ أو لآخر أشعر أنها تدفعني لعزلةٍ من نوعٍ معين، عزلةٍ تشبه “تعزيل” المنزل ابتداءً من استخراج أدوات المطبخ من الدواليب لتنظيفها وانتهاءً بتلميع النّجف والجدران.

فالصديقة المقربة التي كنت أراها عدة مرات في الأسبوع لم تعد مقيمةً هنا، والأخرى أصبحت المسافة بين طريقينا شاسعةً مترامية الأطراف، لا تزال أبوابنا وقلوبنا مفتوحةً لبعضنا البعض، لكن منطلقاتنا لم تعد متشابهة، وحبيبةٌ قريبةٌ أثيرة رحلت للدار الآخرة في رمضان، وعلاقةٌ أخرى ذات دورٍ رئيسي تقترب من آخرِ فصولها.

وبطبيعة الوضع الحالي وعملي من المنزل حتى تنتهي أعمال الإصلاح في مقر العمل، أقضي معظم اليوم لوحدي. شعرت أن هذه فرصة قد لا تتكرر بعد الآن، وبما أنني على وشك اتخاذ قراراتٍ مصيرية، فكرت لمَ لا أستغل هذه الفرصة ليكون كل شيءٍ على السطح دون أي مؤثرات خارجية.

اليوم الثاني كان أشد صعوبةً. عندما قرأت وسمعت تجارب الآخرين في ابتعادهم عن وسائل التواصل الاجتماعي لفترة، تكرر شعور بضعٍ منهم بغضبٍ غير مبررٍ في الأيام التي تلي اليوم الأول، ثم تبدأ المشاعر بالاستقرار بعد الأسبوع الأول تقريباً.

أما بالنسبة لتجربتي، فقد ظهر على السّطح حزنٌ غريب ممتد، امتداد صحراءٍ شاسعة، لا أعلم أين كان مختبئاً فحجمه قطعاً يفوق أي مكانٍ مناسبٍ للاختباء، لكن لأنه لا مهرَب منه، تنبهت أن وسيلة تخفيف الشعور الأولى التي لا تحتاج إلى تفكير كانت حمل الهاتف النقال وتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، فأصوات الأفكار فيه تُخفِض هذا الصوت في رأسي ونفسي وتجعله قابلاً “للهضم”. أما دون ذلك فالصّوت مرتفعٌ وحادٌ جداً.

كنت أستمع لأحد اللقاءات أثناء المشي اليومي، وكان في حديث المُلقي ما مفاده أنه قبل تزكية الإنسان لعلاقته بنفسه وبالآخر، عليه أن يعمل على تزكية علاقتها بالله أولاً، فقد يوجّه الأغلب اعتراضاتهم وأسئلتهم وغضبهم على الآخرين في حياتهم، بينما هي في حقيقتها وجذرها أسئلة متعلقة بأساس وجود الإنسان، كَ”لِمَ ولدت لهذين الأبوين؟ لِمَ اختير لي أن أكون أنثى؟ لِمَ حصل لي ما حصل في عمرٍ وقوّةٍ لم أملك فيهما دفع ذلك عنّي وحدّد ذلك السمة الغالبة في نفسي وحياتي؟وو…”، فوجدت لذلك في نفسي وقعاً مهيباً، وكأن أحدهم أضاء منطقةً في عقلي لم يصلها النور مسبقاً.

فعندما أعطى مثالاً على السؤال المتعلق ب”لِمَ خُلِقتُ أنثى”، وجدته وقع في نفسي موقعاً أصاب عدة أمورٍ رئيسية، وكأنه السؤال المخبئ الذي كنت لا أجرؤ على النظر إليه أو اعتباره موجوداً. وبدأت رحلةً طويلةً لا أزال في بدايتها من محاولة فهم حقيقتي كأنثى، والمقام الذي أقامني الله فيه عندما خُلِقت أنثى، بعيداً عن المقام الذي أقامني فيه المجتمع والإعلام والعرف الذي أُخضِعت له الأحكام الشرعية لا العكس، بعيداً عن تجربتي الشخصية التي أدّت إلى أن أكون ردة فعلٍ طويلٍ بطول سنيني على هذه الأرض، ردة فعلٍ غاضب حانق.

من أنا كأنثى خارج تلك التشوهات جميعها؟ وما هي طبيعتي دون ذلك؟ ماهي حقيقة ذلك دون تلك الأصوات المرتفعة من الجانبين التي تخلّ بصلة المرء بخالقه ثم بنفسه؟

وكيف أصل لبرّ الأمان في ذلك الفهم دون أن يكون لنفسي البشرية التي فيها من الضعف ما فيها ورغباتي الغَلبة على الحقيقة، وما هي الحقيقة دون تشويهات الميول الشخصية التي نالت منها ما نالت، ولكن دون أن تتحول الحقيقة من وجهٍ آخر إلى أداةٍ لتلبية نفوسٍ بشرية أخرى فيها من الشوائب ما فيها.

بدأت أحاول العودة لتعريف الأساسيات وتحسس الجذور وقرائتها وفهمها، ووضع أسئلتي على الجانب لأسأل من أثق بأنهم أكثر الموجودين اتزاناً في هذا الجانب دون إسقاطاتٍ للتفضيلات والميول الشخصية. وفهمت أهمية السياق الكامل لكل شيء، فانتزاع الأمور من سياقاتها بشكل مستمرً أدى ويؤدي إلى تشوهٍ وتشوهاتٍ مضادة. السياق رئيسي في فهم المعاني والمقاصد، وانتزاع الأمور من سياقاتها بشكلٍ جزئي لخدمةٍ ميلٍ أو آخر يؤدي إلى إخلالٍ مستمر بالاتزان.

كل السياقات مهمة ولها آثارها، حتى سياقي الشخصي، لا شيء منتزعٌ ولا نشاز.

عُدت إلى الخبزِ والطّهي، بدأت أعرف الأمور التي كنت أتهرب منها، الأمور التي كنت ألتفت لمختلف الوسائل لتشبع حاجاتي إليها.

وأعتقد أني كنت من أواخر الواصلين لأعراض الڤايروس الذي لم يعد مستجداً، أُصِبت به قبل أسبوع تقريباً، وما دعاني للشك هي آلامٌ جسدية غير مألوفة، لكن بفضل الله كانت الأعراض العامة كأعراض بردٍ موسميّ معتاد.

أثناء فترة العزل والبقاء في المنزل، كنت واقفةً في المطبخ لأعدّ بعض الفلافل المخبوزة المنزلية، تلقّيت اتصالاً من أختي، سألتني إذا ما كنت واقفةً وطلبت مني الجلوس. أخبرتني أن أختنا الكبرى -وهي في دولةٍ أخرى لأغراض العمل تبعد عنا سبعة ساعات بالطائرة- قد أُصيبت بعرضٍ صحيٍّ طارئ أُدخلت على إثره للمستشفى، وأنها ستحتاج إلى إعادة تأهيلٍ لاستعادة النطق والحركة، ولا يستطيعون تحديد مدى التحسن الممكن ولا سرعة الاستجابة.

يكون تلقي الخبر في بدايته ذا صوتٍ خافت، أغلق السماعة وأذهب لإكمال مهامي باعتيادية، ثم يبدأ صوته بالارتفاع شيئاً فشيئاً، ويبدأ كل شيءٍ بالتضاؤل. كل شيءٍ يبدو صغيراً شديد التفاهة رمادياً. تتراءى إلى ذهني صورتها وهي وحيدة في بلادٍ أخرى تحاول التواصل مع الإسعاف لشعورها بأعراضٍ غريبة، ثم صورتها الآن وهي ملقاة لا تستطيع الحديث ولا الحراك، ونصف وجهها خالٍ من أي تعبير. ثم أشعر بهذه المسافة تتضاعف وبالبعد يعتصر جوارحي ويصبح التنفس صعباً.

أشعر بكل ما حولي يتحوّل إلى اللون الرمادي، كنا قبل عدة أيام نتراسل محاولةً لتنسيق موعد لأنضم إليها عدة أيام، كيف يتغير كل شيء بشكل سريع، وكيف يصبح من يلوّن جزءاً كبيراً مني ومن جودي ونظرتي للأشياء يحتاج إلى إعادة تعلّم النطق والكلام، هي التي علمتني معظمه.

أسمع كل شيءٍ يتفتت بصمتٍ تحت ثقل وجودي، ويخيفني شعوري بأني توقفت عن القدرة على الشعورِ فجأةً، سيّئه وحسنه. يخيفني ذلك أكثر من الألم، فاللاشعور أجوفٌ فارغٌ أصمّ تبتعد فيه عن كل شيء وتشعر أن كل حركة وكلمة تحتاج إلى مقاومة وإلى مجاهدة الثقل الذي يجرّ قدميك.

أستطيع أن أقول أن هذا العام يحوي أعواماً عِجافاً فيه، تمرّ الأيام فيه على جميع مفاصلي السليمة وتطرقها بلا هوادة، تقلبت أحوال من أحب فيه وفقدت أحباباً وابتعدت عن آخرين قسراً، ويبدو استيقاظي اليومي للعمل كأسخف شيءٍ على وجه البسيطة، أن أؤدي مهامي بنفس الهدوء كثقلٍ يكاد يجهز على أنفاسي، أقاوم الرغبة في انتزاع نفسي من ذلك جله والاستسلام التام لهذه الأحداث الثقال مقاومة الغريق الذي يتمسك بقشةٍ بكل ما أوتِيَ من قوةٍ بأظافره وأسنانه وأطرافه.

أحاول بكل ما بقيَ أن أتمسك بالأمل، لا لأن ذلك يحوي أي منطق بشري بناءً على المعطيات، بل كلما شعرت بأن نفسي بدأت بالانزلاق ينتشلني صوتٌ يردّد “لا تيأسوا من روح الله”، لأن من خلق النفس هذه وسوّاها العالم بكل ذرّة ألم تمرّ بها أمر بعدم اليأس من روحه سبحانه. والعام هذا لا يصحّ إلا أن يكون محاولةً للتخلية، أن أخلّي نفسي من مرادي منها وأفهم مراده سبحانه منها، وأن أنجو بجَلَدٍ وجِلدٍ قاسٍ دون أن يصل ذلك لقلبي، بل يزيده محبّةً وليناً وصِدقاً وحكمةً ومعرفةً صافية.

“ستجيءُ سبعٌ مرةٌ فَلتَخزِنوا من حكمةِ الوَجَعِ المصابرِ سُكّراً، سبعٌ عجافٌ فاضبطوا أنفاسَكم من بعدها التاريخُ يرجعُ أخضراً”

عيش مقمّر

ذاكرتي عن اليوم ضبابية، بدأ يومي في الساعة الرابعة والنصف صباحاً، خلدت إلى النوم مبكراً بالأمس وكان نومي مليئاً بالاستيقاظ المتكرر لأنني أعرف كمية المهام المتداخلة التي تنتظرني اليوم التالي.

جلست إلى مكتبي في السادسة لأن هناك مهاماً أحتاج للدخول في معارك معها لإنهائها، من النوع التي أعرف أنني سأنهيها بشعرٍ متطايرٍ في الأرجاء ونظارات تحمل بعض الخدوش على عدساتها جرّاء إزالتها وإعادتها وتحريكها بشكل مستمر، معلوماتٍ تتعلق بنواحٍ مالية ضريبية لا أفقه فيها الكثير وأحتاج إلى قراءة مصطلحاتها عدة مرات علّ أحد هذه الإعادات يفتح نفقاً جديداً مسدوداً في ذهني. سألت الله البركة والمعونة قبل البدء وتنبهت أنه لم يخطر لي سابقاً الدعاء بذلك قبل البدء في المهام الثقيلة، ولاحظت أثر ذلك في أنني أنهيت كل المؤجل الثقيل بنهاية الساعة السادسة والنصف مساءً.

ما أتذكره بوضوح هو انتباهي للهدوء التام في ساعة الاستراحة التي أخذتها لتناول الإفطار، صوت غليان المياه التي يُسلق فيها البيض، رائحة الخبز الذي تتحمّص أطرافه أو (تتقمّر) كما نقول في لهجتنا. أصبحت أنتبه أكثر مؤخراً إلى أن أذني تشتاق إلى سماع المصطلحات المألوفة، تصوّر إحداهنّ والدتها وهي ترتدي (شرشف) الصلاة لتسألها بعض الأسئلة، فتقول لها والدتها: (أبغى أغلّق صلاتي)، استغربت من أن هناك أمهات أخريات يستخدمن ذلك للإشارة لإنهاء السنن والفريضة المرتبطة بذلك الوقت غير والدتي وجدتي رحمها الله.

ثم سرحت -وكان ذهني يحتاج إلى السرحان- في بيت جدتي رحمها الله، في (مسافعها) الملوّنة التي كانت تحرص على اختيارها بعناية وتعطيرها لتبقيها ملتفة على رأسها بارتخاء طوال اليوم. رفاهية أن يحبك أحدهم دون مجهود وينتظرك بلا موعد وتعرف أنه يأنس بك دون شك ومخافة إثقال عليه، ويعد لك أصناف المخبوزات المنزلية ويفرح بالتهامك إياها دون أن يتطرق إلى الأثر المحتمل لذلك على وزنك.

لا أعلم إن كان شريط الذكريات يستمر بالمرور في ذاكرتي لأن الواقع أصبح يحتوي على الكثير من الأمور الغير مألوفة إضافةً لأن الكثير من المألوف أصبح فارغ المكان.

أشعر أنني على وشك اتخاذ خطوةٍ أجلتها وحاولت تجنبها مدةً طويلة، هوةٌ في قلبي تستمر في الصعود والهبوط، كشعور المقبل على القفز المظلي الذي طال مكوثه في الطائرة الصغيرة لأن أقدامه لا تحمله على القفز، ضاقت الطائرة به لكنها الخيار الأضمن، فالاحتمالات القائمة بعد القفز غير محصورةٍ ولا مضمونة، والمخاطر لا يمكن التنبؤ بها، ولا يمكن التأكد من هناك من سيستقبله على اليابسة إن وصل أو يوجهه بخطوات فتح المظلة حتى يتم ذلك بشكلٍ آمن.

أنهي الليلة بسؤال وردة (مين قلبه في إيديه؟)، وأتمنى أن يوجَّه قلبي وقلوبكم دائماً لكلّ خيْرٍ وخَيِّر، ولكل مافيه الخير.

زارَ ولم يُخفِّف

تمرّ أيّامٌ يطلُّ فيها الحنين برأسه أكثر من غيرها، يبدأ اليوم بشكله الاعتيادي بين مكالمات العمل ومهامه، أبدأ بإعداد الفطور، أجلس وأفتح صفحات الكتاب الذي أقرأه هذه الأيام لأتصفحه أثناء تناول الإفطار ثم أغلقه على الفور، أفتح اليوتيوب لأشاهد ما أستطيع من خلاله فَصل أسلاك العمل المتشابكة في رأسي مؤقتاً حتى أتمكن من العودة إليه بذهنٍ صافٍ بعد ذلك، إلا أنني أغلقه أيضاً وأجد رغبةً في الجلوس في صمت، ليمتلئ ذهني بالصوّر.

عند البدء في مهامٍ معقدة أحاول إشغال نفسي بأي شيء سوى هذه المهام، وجدت نفسي في قسم مقاطع الڤيديو في ألبوم الصوّر، أشاهد واحداً تلو الآخر، يبدأ ذلك الشعور في التشكل داخل معدتي، شعور “الهوّة”، كيف وأين يذهب المرءُ بكل هذا الحنين الذي يقرر أن اليوم مناسبٌ ليكون ضيفاً يصاحبُ كل مهام ولحظات اليوم دون أي اعتبارٍ لأنني لم أحسب حسابه، علّه يقرر العودة للزيارة في وقتٍ مناسبٍ أكثر كإجازة نهاية الأسبوع مثلاً.

كان وجوده كضيفٍ مألوفاً لكنه ثقيل، لم أرتب يومي لاستقباله، أنهيت اليوم مبكراً وألغيت التمارين الرياضية والكتابة والجزئية التي يفترض أن أنتهي من قراءتها اليوم، وقررت الخلود للنوم باكراً على أمل أن يأتي الصباح بضيفٍ ألطف.

أتذكر تلك الأريكة التي كنت أجلس عليها في غرفتي في منزل العائلة للدراسة وللقراءة، وللحديث بالساعات مع الصديقات، والتي اتخذت منها معظم قرارات حياتي المصيرية. كنت أقرأ وأعيد قراءة ما يكتبه الدكتور أحمد خالد توفيق رحمه الله عشرات المرات، وأحاول نسيان الأحداث في ما يكتب فأعيد القراءة في إجازات الصيف الطويلة.

أفتح عشوائياً أحد روايات سلاسله الموجودة على الرف، أقلبها وأجد العبارة التي كان يرددها رفعت لماجي عندما تسأله إذا ما كان سيظل يحبها إلى الأبد والتي كان دائماً ما يقاطع إكماله لها إحدى المخلوقات أو المصائب:

“حتى تحترق النجوم وحتى..”

لتتردد في ذهني إحدى الجُمَل الأخرى التي كنت أحفظها عن ظهر قلب من إحدى روايات ما وراء الطبيعة: “وداعاً أيها الغريب كانت إقامتك قصيرة، لكنها كانت رائعة، عسى أن تجد جنتك التي فتشت عنها كثيراً.”

يُقال أن السُّلوّ هو عكس الحنين، وأحب أن أتخيل أنني سأستقبله كضيفٍ لطيفٍ خفيفٍ ظريف وإن كانت رحلة وصوله طويلة.

“الله يستر عليكِ”

سابقاً عندما كنت أصغر سناً، كنت أستاء عندما يدعو لي أحد موظفي الجهات المختلفة التي كنت أتردّد عليها أثناء عملي في مجال المحاماة بالسّتر بدل الدعاء بالخير أو بأي شيءٍ آخر، لأنني كنت أترجم ذلك بأني مخلوقٌ “منكشف” غير مرحّب به ووجوده نشازٌ في الفضاء العام يجب عليه الاختباء دوماً وراء ساتر. أعلم أن هذا مبنيٌ على عدّة أحداث أخرى صغرى وكبرى وتعاملات ومعاملةٍ أدّت إلى هذا الفهم.

لكن الآن، بعد ما مررت عليه من التجارب ومرّ علي، عاصرتُ وعُصِرت وعَصَرت، أرى الحياة الدّنيا بنظرةٍ أوسع، أعلم أن تعامل الآخر هو نتاج لنشأةٍ وظروف قد لا أستطيع تخيّلها، وأحاول ترجمة تصرفات وكلام الآخرين بشكلٍ غير شخصي، وأن تكون الرّحمة هي أساس تعاملي وظني وردود فعلي، وذلك رحمةً لنفسي من الانفعال الضّار، وللآخر لمحدودية علمي بحقيقة ما أدى لأن يكون على ما هو عليه، ولأننا جميعاً هنا بشكلٍ مؤقت.

تحكي لي والدتي أنها عندما كانت طفلة ويتعرض أحدهم لوالدتها -رحمها الله التي كانت كثيرة الصمت- بشكلٍ غير لطيف، كانت تنفعل وتسألها عن سبب صمتها وعدم الانفعال على الطرف الآخر، فكانت تشير لها إلى السماء وتخبرها أن هناك من يرى كل شيء، فتستطرد والدتي الآن: “ما كنت أفهم قصدها وقتها”.

وأنا أيضاً، الآن أفهم.

أميل لتصوّر أنني من فئة أولئك الذين يشعرون بالآخر، الحزين الذي يحاول أن تكون ابتسامته أكثر إشراقاً من العادة أو المتألم الذي يخفي ذلك بكثرة الحديث وتحويل دفّته باستمرار أو ذلك يمر في أوقات غير سهلة ولكنه يحاول أن يبدو بأفضل مظهر، فتشي بذلك نظرات العين عندما يصمت الكلام قليلاً وينتهي الضحك أو الابتسام، وإلى انحناء الظهر والأكتاف وإن كان طفيفاً، وإلى خلجات الوجه وتعابير اليدين التي تفلت دون إرادةٍ أحياناً.

لذا كنت دائماً في المقابل على مظنّة من أن الآخرين قادرين على اختراق جمودي الخارجي. حتى حصلت عدة مواقف متزامنةٍ مؤخراً، ليخبرني أحد من عرفت لأيامٍ فقط أنه على الرغم من أنها تستطيع قراءة الآخرين دائماً إلا أنها لم تستطع أن تقرر ما إذا كنت قد انزعجت من موقف قد حصل أم أنني لم أنزعج بتاتاً، ثم يخبرني شخصٌ آخر قريب أنه لم يتخيل أنني أمر في ظرفٍ بثقل الظرف الذي أمر به، وأخيراً في العمل قبل اجتماعٍ كان القلق حينها قد بلغ مني مبلغه لعلمي بأنه سيكون مليئاً بكل ما يجب استجلاب الصّبر من أجله، لتأتي زميلةٌ فتقول لي حينها: “إذا شفتك أحس إن كل شي تحت السيطرة”.

الآن أفهم أن هذا من ستر الله عليّ، أنه ستر ويستر ضعفي وتخبطي وصراعاتي، فقد أكون على بعد خطواتٍ من اتخاذ قرارٍ مصيري، وقد تتعرض مسلماتي لزلازل إلا أنه منّ عليّ بألّا أخلع عباءة الجَلَد إلا عند مناجاته، وأن تجارب السنين الماضية على الرغم من أن ألمها لا يزال حاضراً إلا أنه ستر علي بأن كانت وسيلةً لقطع رجاء إظهار هذا الضعف لغيره أو رغبة أن يلتفت أحدهم للألم، لأن الأغلب يمر في رحلته الخاصة. فالكلّ قاصرٌ ناقصٌ ولا كمال إلا له سبحانه، والكلّ يحتاج إلى شرحٍ وهو سبحانه الباطن لديه كالظاهر، والكلّ يحتاج إفهاماً للحوائج وهو سبحانه يعلم من حاجاتي ما لا أعلم ولا أحيط.

آب- ٢٠٢٢

أستيقظ دون رغبةٍ حقيقيةٍ في الاستيقاظ بعد أن خلدت إلى النوم البارحة قرب الساعة الثالثة صباحاً، لديّ مستندٌ طويلٌ أجلت قراءته ومراجعته وتدقيقه لمدة يومين، أقسّم عدد الصفحات لكي أخفف ثقل ذلك على نفسي. أن أبدأ أي شيء مهما كان معقّداً من الصفر أسهل عليّ من المراجعة والتدقيق.

جلست لقراءة عددٍ من الصفحات لكنني بالطبع وجدت الوقت مناسباً لتنظيف آلة القهوة التي بُحَّ صوتها وهي تنادي لتنظيفها داخلياً منذ عدة أسابيع، ووجدت حاجتي للقهوة عذراً مناسباً للمزيد من التأجيل.

الأسابيع الماضية كانت مليئة، الكثير من الأحداث تبدو هلامية وسريعة، يخيّل لي كثيراً من الأحيان أن هذا هو ديدن حياتي منذ أن بدأ دوري كلاعب رئيسي في القصة.

أقمت لما يزيد عن أسبوعين في منزل العائلة بسبب إصلاحاتٍ في المنزل، كنت أستيقظ على صوت والدتي في صالة المعيشة تهاتف هذا وذاك للسؤال والتأكد من أن الأمور تسير على ما يرام سواءً كان ذلك فيما يتعلق بالمنزل والعائلة أو الآخرين، أتجهز لليوم وأخرج من الغرفة لتسألني ما إذا كنت أرغب في أن ترسل السائق ليحضر “فول وتميس” للإفطار.

ثم ننزل لتناول الإفطار على طاولة المطبخ، التي أصبحت الطاولة الرئيسية باستثناء أيام نهاية الأسبوع بعدما خرج الأغلب من المنزل واستقل مع أسرته الصغيرة. أحب في تفاصيل المنزل أنه ليس حديثاً، تملؤه الشمس من كل مكان لكنه مليءٌ بالتفاصيل والنقوش التي مضى عليها ما لا يقل عن ٣٠ عاماً.

أكمل مهام العمل في غرفة طعام الضيوف، وأبدء يوم العمل بين كراتين رطب نخيل المنزل الذي ستقوم والدتي بالإشراف على تقسيمه وتوزيعه، وهي العادة السنوية التي تستمر أسابيع عديدة حتى ينتهي موسمه.

بعد مضي الأسبوعين، دخلت والدتي إلى المستشفى لإجراء عملية من عمليات اليوم الواحد.

أتأمّل تغير العلاقة بيني وبين والدتي عبر السنين، المراحل التي شهدتها ومرّت بها. نشأت وأنا أراها قوية الشخصية لا تخاف سوى من خالقها، يهابها الآخرون، شديدةً وحازمةً وجديّة، لذا كانت المعلمات يستغربن من تجرؤنا على مخالفة الأنظمة والمشاغبة بشكل مستمر وقدرتنا على الاعتراض والمجادلة. لكنني الآن أفهم، فمع شدتها إلا أن رحمتها وحنانها بنا وبأي من وما يمر عليها من المخلوقات طغت على تعاملها معنا، فكنا نعمل لها حساباً لكننا لا نخافها لدرجة أن يطغى هذا الخوف على تكويننا، النقاش المنطقي دائماً متاحٌ على الطاولة والتعبير عن الاعتراض مرحب به. رأيتها خلال حياتها وحتى وقد بلغت السبعين تعتذر وتستغفر بعد أن تشعر بالخطأ أو التقصير للصغير قبل الكبير، وللضعيف قبل القوي، ولا زالت تطلب أن ننبهها إذا ما رأينا تقصيراً وتسألنا إذا ما كان هنالك ما تستطيع تقديمه لمساعدتنا على النمو والتجاوز، وتدعو الله بأن يعوّض قلوبنا ويمسح عنها التجارب التي تركت آثاراً قاتمة. عرفتها تتغير باستمرار، وتطلب وتبحث عن ذلك بصدقٍ دون أن تفقد الأمل بالله، وتدفع بنا إلى ذلك بكل الطرق حتى الغير تقليدية منها.

أتأمل كيف شكلني و”عجن” طينتي ذلك، وكيف أنه منحني جوانب عديدة مختلفة دون جهدٍ منّي، كيف ساهم ذلك في منحي ذهناً يمحّص الأمور ويتأمل كثيراً، وبوصلةً أعود إليها كلما أضعت الطريق واختلطت علي الاتجاهات، وكيف تشكلت الحدود التي تضع حداً لتعدي الآخر، فحثّنا على التعامل مع الآخر بعين الرحمة دائماً ووضع أنفسنا مكانه كان لا يتنافى مع تشجيعنا الدائم على عدم السكوت على التعدّي سواءً كان ذلك اتجاهنا أو اتجاه أي كائن آخر.
وكيف أُفهمنا أن القلب لصحته عليه ألا يتعلق إلا بالحي الباقي لأنه لا دائم سواه، هي التي فقدت والدتها -رحمها الله- التي كانت شديدة التعلّق والمحبة لها وهي ابنة السادسة عشرة في حادث مفاجئ وكانت للتو قد تزوجت وسافرت إلى الولايات المتحدة لتكمل تعليمها الثانوي والعالي، فلم تتمكن من توديعها لأن الخبر وصل متأخراً جداً حيث كان التواصل حينها معقداً، ولا تزال تتأثر بشدة حين يأتي ذكرها أو تمر أي مناسبةٍ تتعلق بالأم على الرغم من مضي ما يقارب خمسةً وخمسين عاماً.

أتأمل العروق على يدها اللّينة، وهذه الألفة والأنس تجاهها اللذان لا يشبهان أي شيء آخر، وأحمد الله على نعمة المحبة والرحمة الفائضة التي جعلها في قلبها اتجاهنا ووهبني من خلالها معاملاً ثابتاً في حياتي، وكلما ضاق بي الأمر واشتد، أتذكر لطف الله وكرمه الذي حفني به قبل أن أخرج إلى الوجود بأن جعلها لي والدة.

عاصفة لذيذة

أجلس هنا بعد نومٍ طويل مليءٍ بالأحلام التي تدور حول نسيان شيءٍ ما في أحد المطارات، في هدوءٍ تام على مكتبي، .يشبه هدوء ما بعد العاصفة لكنها عاصفة لذيذة ومحببة للنفس، فقد اعتدت الأيام الماضية الاستيقاظ على أصوات أحاديث الصباح المتبادلة واحتكاك أدوات تناول الطعام بالأطباق.

أجلس هنا بأقدام مليئة بقرصات الناموس وتنتظرني في حقيبة السفر ملابس مليئة بالتراب الأبيض وأحذية ملطخة بالطين الأحمر.

لو أخبرني أحدهم أنني سأسافر طوعاً واختياراً مع مجموعة لا أعرفها إلى بلاد لم أزرها مسبقاً سأتوقع أنه غالباً يلقي نكتة سوداء عن طبيعة شخصيتي التي أعرفها منذ بدأ وعيي بنفسي.

منذ عدة أشهر وأنا أعاصر ظرفاً خانقاً، كانت لدي رغبة ملحة في تخفيف وقعه أو نسيانه مؤقتاً، وحيث أن كل من حولي لا يرغب أو لا يستطيع السفر حالياً، بدأت بالبحث عن مجموعة نسائية يمكن السفر معها، مجموعة ليس لها سمتٌ محدد سائد أو لأفرادها مظهرٌ معين، فلم أكن أرغب بالسفر وحدي تماماً لاعتبارات عدة.

وخلال هذه الرحلة التي تم كل شيء فيها في اللحظة الأخيرة، رأيت وعرفت من نفسي جانباً مختلفاً جديداً، خفت من نفسي أحياناً، وتقبلتها أكثر أحياناً أخرى، وتعرفت إلى بعض الحقائق عنها.

فالرقابة من الآخر الذي يعرفك أحياناً عدة لا تكون رقابةً ناشئةً عن معتقد محدد، بل مجرد فكرته المسبقة عنك المؤطرة لشخصيتك وردود فعلك وتفاعلاتك التي تستغرب أي خروج عن هذا الإطار، تؤدي كثيراً إلى البقاء داخله حتى وإن لم يعد ذلك مريحاً لك.

ثم هناك جزءٌ متعلق بتفاعل الآخر في المجموعة بعيداً عن كل صناديقه، والذي ينعكس بدوره عليك لتصبح أكثر انطلاقاً لتتفاعل مع المحيط وفقاً لطبيعتك الحقيقية لا الصناديق التي وضعت نفسك فيها أو وضِعت فيها لأسبابٍ مختلفة متعددة.

عرفت جزءاً من نفسي وأحببته، وكنت لسنين طويلة أتصارع مع رفضي المستمر الدائم لها، “والله مش بطّالة”.

هناك شيءٌ ما غير معروف الكنه أو التسمية يشرق في النفس عندما يحصل ذلك، أشبه بالمكان المغلق المعتم الخالي من أي إضاءة أو نسمة هواء لفترة طويلة، عندما يتم البدء في تكسير جدرانه لبناء نوافذ كبيرة يدخل منها الشمس والهواء، يتغير المكان كلياً ليستنكره صاحبه بعد ذلك فلا يتعرف إليه سريعاً، لكنه استنكار محمودٌ إن صح التعبير.

أثمن مافي هذه الرحلة، هي أنني عدت منها بشعورٍ مختلف اتجاه واقعي ونفسي، وشعرت أن هناك شيئاً طيباً يشق طريقه في دواخلي، وأن نظرتي  للإمكانيات  أصبحت  أكثر  اتساعاً،  وكأنني  كنت  أستخدم  نظاماً  قديماً  للحاسب  الآلي ثم قمت بتحديثه لتتغير الواجهة والخيارات وطريقة عرضها. 

لم أكن أتخيل يوماً أنني قد أذهب في رحلة وحدي مع مجموعة لا أعرفها دون معارضةٍ صارمةٍ من والدتي، لكن الغريب في هذه الرحلة الأولى من نوعها أنها  لم  تعارض  أبداً  بل  ضحكت  مستغربةً  من الوجهة  المختلفة  ومن  الفكرة  ككل  لأنها  لا  تشبه أي شيء قد أقوم به  أو أقدم عليه، أنا التي لاتألف الآخر  إلا بعد مدة طويلة ولا أتخذ خطوات  إلا بعد بحثٍ مطوّل دقيق عميق.  

قد يكون حديث نفسي هذا متأثراً ومأخوذاً بمجموعة التجارب الجديدة وبالهواء والطبيعة البكر، لكني أتعامل مع هذا كله بفضول لما يمكن أن يتغير نتيجة لكل هذه المعادلة.

انتصفت تقريباً في الكتاب الذي أقرأه حالياً لدونالد ميلر (أن تمتلك تنّيناً- تأملات في النشأة دون أب) ووصلت إلى مقطع يشبه وصف الحال الذي أمر فيه حاليا، عندما تمر بلحظة إدراك يصعب وصف تفاصيلها بدقة ترى حينها نفسك بمنظورٍ مختلفٍ تماماً لما كنت عليه قبل أيام معدودة، يقول: “أدركت في ذلك اليوم أن سبب دفن رأسي المستمر في التراب لا يعود إلى ذلك الرجل، لا أقوم بدفع الضرائب لأنني كنت مقتنعاً أن الحياة عبارة عن لعبة لم تتم دعوتي للعبها، وأن ذلك يتعلق بمشاكلي مع الشعور بالانتماء. لم أكن أعلم أن بإمكاني اللعب ولم أكن أعلم أن بإمكاني النجاح. كنت أعرف ذلك منطقياً، تدل الحقائق على أن بمقدوري المشاركة ويشهد وجود لحمٍ على هيكلي العظمي على أنني لا زلت حياً. لكنني أتحدث عن إدراكٍ عميقٍ جداً بأنه تم منحي الحياة كهدية، تحمل نوعاً من التحدي وتعد معركة بشكلٍ أو بآخر، بل مغامرة.”

ساعدني هذا في فهم أوضح للشعور الغامر الذي أمر به، وهو أنني بدأت في أخذ دور الممثل الرئيسي في قصتي بعدما كان الدور الثانوي هو ما أجيده وأعرفه، قد يكون الحدث بسيطاً في ظاهره لكنه يحوي في باطنه تحولاتٍ عديدة أعتقد أنها ستتكشف مع الأيام.

تأملت المحيط كثيراً، تأملت انعكاسات أشعة الشمس عليه نهاراً، واختلاطه مع ظلمة السماء ليلاً وهيبة أصوات موجه، وفي أنه سبحانه وحده من علمه بباطنه كعلمه بظاهره مما لا يعلمه جنس كائنٍ ولا بشر، وفي أن كل أنسٍ يخلو منه مصيره إلى زوالٍ وفناء، وكل اتكاءٍ على غيره ضعف، والضعف والذل بين يديه قوة، والأنس به باقٍ وإن خلا العالم من كل مخلوق.

آنسني الله وإياكم دائماً بذكره ومحبته ومعرفته وأحاطنا بخيار خلقه وجعلنا منهم.

“ما أضيق العيش لولا”

أبحث في خرائط قوقل عن مكان قريب للعمل فيه لأني أجيد إلهاء نفسي في المنزل، أمرّ صدفةً على الحي الذي يحوي منزلها الذي كنت أزورها فيه كل أسبوع رحمها الله فأشعر بفراغ، ثم أمر على الأماكن التي كنت أرتادها كثيرةً مع الحبيبة الأخرى التي انتقلت إلى قارةٍ بعيدة فتزيد وحشتي.

أمرّ بوحشةٍ تتعلق حتى بتفاصيل حياتي الشخصية، تغيّرت بشكل سريع عاجل، في أشهر قليلة، كأني ركبت قطاراً بسرعة الضوء لا يتوقف، لكن هذا القطار السريع استثار مشاعراً كنت أعتقد أني تصالحت معها وتجاوزتها وتعاملت معها في الجلسات مع الأخصائية، لكني تفاجئت من حدتها، وخفت منها أحياناً كثيرةً أخرى. وما أخوف أن تخاف نفسك.
خفت ووجلت من الصوت الداخلي الذي ارتفع صوته فجأةً، وخفت من العلامات الواضحة الذي كان عقلي يتجاهلها عنوةً لسنوات لأني أحاول التكيف مع أمورٍ لا تطيقها نفسي.

بالطبع لست مع إعطاء النفس على هواها واعتبارها مرجعية، لكن قراءة النفس بشكل سوي وفهمها، ومن ثم البحث عن مرجعية سوية لا تستخدم إسقاطاتها الشخصية على “المفروض” و”المشروع”، وفهم أن هنالك أجزاء من النفس خُلقت مجبولة عليها حتى مع التهذيب والتزكية، ووضعها في مواضع تستثير ضعفها بشكل مستمر ليس من الصحة في شيء، جعلني أغضب من نفسي لأني جئت على هذا الضعف ولم أستمع للصوت المستمر في التنبيه، ووضعت نفسي موضع المنقذ الذي سيغير حياة الآخر للأفضل، واستقتلت لفعل ذلك.

والحقيقة هي أنك تستطيع التواجد للمساعدة بما في سعتك وطاقتك، لكنك لا تستطيع السير في الطريق بدل الآخر ولا خوض رحلته، ولا تستطيع منح الآخر معنى حياته. والخيط بين محاولة تقديم المساعدة وبين أن تُجلس نفسك مكان الآخر الذي ليس بالضرورة مستعداً لخوض الرحلة الثقيلة للبحث عن المعنى والتزكية ومعرفة النفس هو خيطٌ رفيع.

وبعد صراعٍ نفسي لأسابيع، أخبرني أحدهم صدفةً عن كراسة قراءة النفس للدكتور عبدالرحمن ذاكر، قلت في نفسي بدايةً أن الجلسات مع الأخصائية مشابهةٌ لفكرتها، لكنني تعلمت ألا أحكم على الشيء قبل تجربته إذا لم تتضمن احتمالية عدم النفع على ضرر.

بدأت بإجابة الأسئلة في الفصل الأول والثاني والثالث، ولاحظت الفرق الشاسع بينها وبين الجلسات، فهنا أحكي كل شيءٍ لنفسي كتابةً بالترتيب الزمني، وهنا أعرف ما تعريفي الفعلي لنفسي كأنثى دون مجاملة أو محاولة تحسين، أعرف صراعي مع نفسي في هذا الجانب دون محاولة تنميق الكلام لأنه لي، أجلس مع ذاكرتي ونفسي يومياً، أفككها دون أن أنظر إلى الساعة لترقب موعد انتهاء الجلسة ودون أن يكون الكلام الذي يخرج من فمي ثقيلاً لأن المعالجين النفسيين لا يُظهرون التعاطف، لأنني لا أضطر مراراً للدفاع عمن أحب ممن قد يكون قد نالني أذاهم سابقاً جهلاً منهم.

ووجدت إلى حدٍ ما الجذور التي كنت أبحث عنها في رحلة التعرف الحقيقية إلى النفس، تبقى لي الكثير في الكراسة وفي الرحلة ولا أزال في بداية الطريق، لا أعرف علامَ أو إلى ماذا ستنتهي هذه الفترة العجيبة، لكني أعرف يقيناً أنها مرحلةُ مخاضٍ كبيرة.
وكأن السنين الماضية أحد ألعاب الڤيديو قيمز التي تجعلك تواجه المراحل أصعب كلما انتهيت من الأسهل.

أعرف أن النور بعيدٌ جداً حالياً وأحاول المضي في أيامي بأخف وأقل ضرر ممكن، لكني أعرف يقيناً أن النور هناك.

تقول فرقة مومفورد آند سونز في أغنيتها The Cave-الكهف:

“But I will hold on hope
And I won’t let you choke
On the noose around your neck
And I’ll find strength in pain
And I will change my ways
I’ll know my name as it’s called again”
“لكنني سأتمسك بالأمل، ولن أسمح للحبل الذي يلتف حول رقبتك بأن يخنقك، سأجد في الألم قوّة، سأغيّر من طُرُقي وسأعرف اسمي عندما يُنادى مرّةً أخرى”

ما أعد به نفسي، أنني سأحاول إنقاذها، ألا أتوقف عن محاولة التعرف إليها، أن أحاول تزكيتها دون أن أنكر ضعفها وبشريتها وأخنقها، وألا أتركها تنزلق مهما بدا النهوض من السرير أياماً عديدةً كأسوء وأصعب شيءٍ يمكن أن أقوم به، أني سأحاول وإن بدت هذه المحاولات مكررة، وإن سئمت هذه المحاولات وسئمتني، وإن ملأت قلبي الوحشة واشتدت، أنني سأتكئ دائماً على دعائي وأتوكل وأثق بالواسع الكريم لا بنفسي ولا بغيري، الذي علم بوجودي قبل وجودي، الذي خلق نفسي وسواها، ومن هو أرحم بي من أمي الحبيبة ومن نفسي، حبيب كل غريب وأنيس كل كئيب.

لا أوحش الله قلوبكم، وملأها أُنساً وسروراً وبهجًة.