الأسبوع الثاني من تشرين الثاني

لا أفضل بث الكثير من المشاعر الغير لطيفة من خلال ما أكتب، لكن هذه الفترة من حياتي تتضمن العديد من التجارب النفسية الشاقة، ولا أرغب في إعطاء كتاباتي طابعاً غير واقعي، لأنني أذكر نفسي أن هدفي من الكتابة هنا دون استخدام اسمي هو أن أعبر دون أن أحمل هم التوقعات المسبقة وأن تكون كتاباتي حقيقة لتوثيقها والعودة إليها بعد سنين.

مع مرور الوقت والزمن يتأكد لي مراراً وتكراراً أن الركض لا يناسبني ولا يلائم طبيعتي. والآن تأكد لي ذلك أكثر من أي وقتٍ آخر، الاستقياظ بفزع من قائمة مهام العمل الطويلة والخوف من نسيان بعضها، تفقد دفتر المهام مراراً وتكراراً، الغرق بين رسائل بريد العمل التي لا تتوقف بل تزداد، عيناي التي أصحبت تحتويان على نقاط حمراء بسبب الجفاف وصداع محاجر الأعين الناتجين عن التركيز على الشاشة منذ الاستيقاظ وحتى النوم، عدم الاستمتاع ببطء أيام نهاية الأسبوع وصفاء الذهن فيها، الهرب من الارتباطات الاجتماعية حتى تلك التي أحب وأفتقد والتي تمدني بالطاقة لأن ذهني في الوقت حالي ينظر إلى كل شيء كأنه مهمة أخرى تضاف إلى القائمة.

أعتقد أن سلواي في هذه الفترة أن هذا كله مؤقت، ستعود مديرتي بعد أسبوعين وسينتهي برنامج التدريب بعد خمسة أسابيع، ستمر هذه الفترة إن شاء الله.

في إجازات نهاية الأسبوع وفي الوقت الذي أسترقه مع من أحب أكتشف افتقادي للاتصال البشري خارج نطاق العمل، يوم السبت زرت أحد الأحباب، تناولنا الإفطار وجلسنا عدة ساعات تحت ظل شجرةٍ كبيرة، كانت جلسة سُكبت فيها القلوب، فحيح الأشجار، الشمس والهواء. أحسست بأنني ابتعدت عن هذه الدوامة وشعرت أن روحي كانت عطشى لمثل هذا.

يوم الأحد لم يكن سلساً منذ بدايته فقد بدأ بمشكلة مع مديري السابق لأنني طلبت منه عدم إرسال طلبات جديدة لي لأن مديرتي الحالية في إجازها والقسم جديد ولا يوجد أحدٌ آخر يقوم بجميع المهام المتعلقة بتأسيس القسم وتلك المتعلقة بالأعمال والمهام اليومية.

بعد صلاة العشاء وتناول الغداء، تعرضت لصدمة لم أتعرض لها مسبقاً، أثناء مشيه فقد زوجي وعيه فجأة وسمعت صوت ارتطام جسده بالأرض، ركضت لمصدر الصوت ووجدت رأسه ووجهه غارقين في الدماء، أصابتني حالة من الهلع ولوهلة ظننت أنني أتعرض لأسوء كوابيسي ومخاوفي، لا أتذكر ماذا قلت أو فعلت لكنه بدأ في استعادة وعيه وبدأت في ارتداء عبائتي سريعاً لأخذه إلى المستشفى، طلب مني الاتصال بأخيه لفعل ذلك لأن أعصابي تتعرض لضغط شديد ولا يجدر بي أن أقوم بالقيادة في هذا الوضع. بعد ذهابه إلى المستشفى قمت بتنظيف أرضيات المنزل التي انتثرت فيها الدماء، وبعدها بدى كل شيء بطيئاً وبدت كل حركة تتطلب مني جهداً عظيماً للتفكير بها.

لم أرغب في الاتصال بوالدتي فهي لم تعد صغيرة في السن والوقت لم يكن مبكراً ولم أتمنى أن أكون سبباً في تعرضها لقلق شديد في هذا الوقت خاصة أنني لم أستطع التوقف عن البكاء على الرغم من معرفتي أنه بخير والحمدلله وأنهم قاموا بعمل جميع الفحوصات اللازمة للقلب والدماغ والأغلب أنه كان هبوط ضغط مفاجئ واحتاج خياطة بسيطة. لكن صدمة الشعور الأول بقيت عالقة معي ولم أستطع تجاوزها، ومن ثم صدمة اكتشاف أنني إن لم أتصل بأمي بحثاً عن الراحة في الحديث معها عما حدث فإني لم أجد أحداً آخر تسمح علاقتي به بفعل ذلك.

هل بالغت في الحفاظ على مسافات في جميع علاقاتي حتى تلك القريبة منها، خوفاً من الحب والفقد، خوفاً من أن أثقل على أحدهم لأجد نفسي في نهاية المطاف وقد كبلتني مخاوفي وحجبتني عن القدرة على الاتصال البشري الطبيعي؟

أتأمل أحد أقربائي الذي قارب السبعين وأفكر: كيف يشعر وقد تجنب محاولات الآخرين للاتصال معه بحضن أو كلمة دافئة أو لمسة يد حانية لما يزيد عن خمسة عشر عاماً؟ كيف يمكن لأحدهم أن يقسو على نفسه لهذا الحد ويحرم نفسه من قرب التواصل البشري؟ أن يخاف ويجد من يطمئنه ويتحدث إليه؟

وأشد ما أخافه هو أن أفعل في نفسي يوماً ما فعل، لأن بالتأكيد كانت بدايته تدريجية، كان هناك الكثير من “منطقة” العلاقات والمسافات “الآمنة” في ظاهرها.

أعتقد أنني أرغب في كسر هذه الحواجز التي وضَعت بعضها ووُضِعت لي بعضها، أرغب في أن أسمح لنفسي بإظهار ضعفي وخوفي ومحبتي، حتى وإن خذلت وإن فقدت وإن تألمت، لأن هذا كله جزءٌ لا يتجزء من المحبة والشعور بالآخر ومن التجربة الإنسانية التي نخوضها، وأعتقد أن هذا الألم أخف وطئاً من قسوة العزلة النفسية والفردانية التي تعززها طبيعة الحياة الحالية.

أنار الله قلبي وقلوبكم بالمحبة والطمأنينة والسكينة وغمرها بألطافه.

2 comments

  1. رفاق · نوفمبر 18, 2020

    الحمدلله على سلامتك وسلامته. الجزء الأخير من التدوينة مهم؛ شكرا لمشاركته معنا.

    إعجاب

أضف تعليق