شباك صغير

منذ أن عدت إلى العمل حضورياً وأنا أشعر أن كل شيءٍ أصبح مُربّعاً، لا أعرف كيف أصف ذلك بشكلٍ أوضح. لا أعرف من بادر بفكرة المكاتب المفتوحة الأشبه بالفصول المدرسيّة التي يكون المُلقي فيها والمتحدث شخصاً واحد، وليس ما يقارب أربعين أو خمسين شخصاً يتحدثون ويعملون في الوقت ذاته، لكنه على الأغلب أحد من كان يحاول جمع أكبر عددٍ ممكن من الموظفين بأقل تكلفة بلا جدران ولا أبواب ولا مساحةٍ تكفي ذلك.

أقوم بإعداد الإفطار في الخامسة لأخذه معي، كل يومٍ أعدّ نفس الإفطار الذي يبقيني ممتلئة وراضية: سبانخ مشوح على النار مع السمّاق وبعض الفلفل الأحمر المشوي المغمور بزيت الزيتون، وبيض وفتات جبن الغنم الفرنسي في خبز خميرة طبيعية محمّص. فكرت مراراً وتكراراً في تجربة اشتراكات إيصال الوجبات، إلا أنني أشعر أن الطعام الذي أعدّه بنفسي في المنزل مهما كان بسيطاً حتى وإن كان بيضاً مسلوقاً له طعمٌ مختلف، لا أدري إن كانت حيلةً نفسيةً عقلية أم أنها حقيقة.

المكيفات في العمل شديدة البرودة، أضطر للخروج كدجاجةٍ مجمّدة ل”أفُكَّ” ثلجي في عزّ الظهيرة ودرجة حرارة الرياض تقارب الخمسين. بعد الاستعداد صباحاً للخروج، تمتدّ يدي لأخذ حقيبة الطعام وحقيبة جهاز اللابتوب، وتتكرر في ذهني أغنية كانت افتتاحاً لأحد المسلسلات التي كنت أتابعها أيام الجامعة:

“Little boxes on the hillside,
Little boxes all the same.
There’s a green one and a pink one
And a blue one and a yellow one,
And they’re all made out of ticky tacky
And they all look just the same. And the people in the houses
All went to the university,
Where they were put in boxes
And they came out all the same,
And there’s doctors and lawyers,
And business executives,
And they’re all made out of ticky tacky
And they all look just the same.”

صناديق صغيرة تشبه بعضها بعضاً، يرتادون الجامعات ليوضعوا في صناديق، يتخرج منهم الأطباء والمحامون والتنفيذيون، يبدون كبعضهم بعضاً، وهذا ما أشعر أنني أتحول لأكونه؛ صندوق.

أعلم أنني مخلوقة لمعنى وحكمة، وأن الروح التي نُفخت فيني هي ما تصعّب تأقلمي على هذا المحيط، لأنه ينتزع من الأشياء أرواحها ومعناها، ويختصر كل شيءٍ في أرقام وشعاراتٍ واستراتيجيات بعيدةً شديد البعد عن المكوّن الرئيسي للإنسان الذي يجعله حيّاً حقيقةً ومجازاً.

يشبه الشعور ما وصفه كتاب (Rework) في أحد المقالات التي كانت تتحدث عن الشعارات الجوفاء، والتي قام فيها الكاتب بوصف وضع المنشآت التي تضع شعارات على الجدران منفصلة عن واقعها، كأن تكون في مكتب لتأجير السيارات، الغرفة شديدة البرودة، والسجاد متسّخ وليس هناك أحدٌ على المكتب للخدمة ولكن هناك ملصقٌ كبير على الجدار يتحدث عن أهداف الشركة التي تتمحور حول أن تكون الأفضل في خدمة العميل. أو تلك الأصوات الآلية المسجلة التي قد تتكرر وقتاً طويلاً أثناء الانتظار على الهاتف لتؤكد لك أهمية وقتك بالنسبة لها، وينهي ذلك الكاتب بأنه يفضل ألا يُقال أي شيء بدلاً من الأصوات المسجّلة التي تخبره بأهميته كعميل، لأنها آلة تسجيل أشبه بالروبوت ونحن نعرف الفرق بين الاهتمام الصادق والآلة التي تمت برمجتها لتتحدث بلباقة.

أجلس إلى مكتبي وأخطط أنني سأفعل شيئاً مختلفاً عندما أعود إلى المنزل ولن أجلس على الأريكة بإنهاك بانتظار وقت النوم لأنام، وأبدأ اليوم التالي من جديد على نفس المنوال، لكنني كل يومٍ أعود منهكةً من كمية الأصوات والبشرالذين أتعرض لهم فيكون طريق العودة صامتاً لا أستمع فيه إلى أي شيءٍ سوى مكيف السيارة، وكل ما أريده هو إخفات صوت عقلي ونفسي وقلبي والاستسلام لما يُمضي الوقت دون جهد.

لا أعلم إن كانت فترة وسأتقلم على كل ذلك بعد انقطاع يقارب الثلاثة سنوات عن العمل الحضوري، أم أن العمل عن بعد لهذه المدة جعلني أتنبه إلى القدر الكبير من الطاقة والوقت الذي يستغرقهما العمل الحضوري دون أن يكون لذلك أثر فارق على أداء العمل، إلا أن الاجتماعات تتكاثر بالانشطار، والشائعات والقيل والقال الذين يطرقون الأذنين باستمرار تكاد لا تتوقف.

بينما على الجانب الآخر في العمل من المنزل، لن يتصل بك أحدهم إلا لنقل خبر هام وقع فعلاً أو لمناقشة عمل يجب مناقشته، ويتبقى مساحة من الوقت للطهي والقراءة والتعلم والكتابة وواجبات صلة الرحم، وطاقةٌ ذهنية نفسية جسدية لفعل ذلك، وبالنسبة لي وهو أكبر فارق: قلبٌ أسلم.

لا أنكر أن خلال تنقلاتي العشر سنين الماضية تعرفت من خلال العمل على من أعتبرهم الآن أقرب الصديقات وأثمنهن، إلا أنني أعتقد أن مرحلتي الحياتية الحالية ونظرتي المختلفة إلى الأمور، وبيئات العمل الضخمة والاحتكاك المستمر “على الفاضي والمليان” يغرقني بأشياء غير طيّبة، قد أعرف بعض مسمياتها وقد لا أعرف.

عندما قمت بعمل اختبار مقياس بيركمان -وهو شديد الدقة- وجلست مع المستشار ليشرح لي نتيجتي، تأكد لي أن الطريق الذي يتوجب علي سلكه والذي يتوائم مع جبلتي مختلف تماماً، فملائمتي للثقافة التنظيمية عموماً شديدة الانخفاض. أخبرني المستشار حينها أن معظم من يقومون بعمل الاختبار لديهم نوعٌ من الملائمة مع الثقافات التنظيمية وإن كانت منخفضة، أما في حالتي فهي شبه منعدمة.

ثم أقول لنفسي: الدنيا كدا، ليس علي أن أتوائم مع أو أن تتوائم معي جميع المعطيات. لكن ما توصلت إليه هو أن هناك جبلّة ليس لها علاقة بتوقعات مثالية أو “بطر”. هنالك تركيبة نفسية ذهنية لا تختارها لنفسك، تتضمن جبلّتك التي تحوي الطيّب وما يحتاج إلى تزكيةٍ أيضاً، تتفاعل مع معطيات النشأة والبيئة والوالدين والمحيط، وذلك خارج الاختيار أيضاً، يغذي ذلك التجارب المستمرة التي لا تنقطع، هناك أشياء أصيلة تبقى كانت دائماً هناك، قد تغطي عليها مختلف العوامل، إلا أنها تظهر واضحة جلية حتى وإن كان ذلك بينك وبين نفسك وحتى إن تم إنكارها لفترات مطوّلة ممتدة وخفت صوتها، لكنها كصوتٍ في الخلفية لا يمكن تجاهله إلى الأبد.

بعد العامين الماضيين وما مررت به مما أعاد تشكيلي على أقل التقدير، فقدت القدرة على غض الطرف والتماهي، أعرف الأمور التي تستحق بذل الوقت والجهد والطاقة وتلك التي يظن ويدعي الأغلب أنها كذلك وإن لم تكن، وأصبحت قدرتي على مخادعة نفسي أقل، أعلم أن ألم اختلاف الرحلة والتجربة وخوض المجهول أخف وقعاً من ألم استمرار المسير في الطريق تفادياً للمجهول الغير معروف، والثمن في المعروف المألوف الذي قد لا يكون مناسباً أبهظ وأثقل.

وضعت خطاً زمنياً لنفسي وإن كان ذهنياً فقط، لكنني أحتفي داخلياً هذه الأيام حتى بهذه الرغبة في التغيير، أحتفي بعدم الراحة الذي يجعلني “أحرك وأفرك” في مكاني باحثةً عن الوضعية المريحة، لأن الشهور الطوال التي مضت والتي خلت تقريباً من أي رغبة أو أي شعور جعلتني أحمد الله حتى على الألم الذي يدفع إلى الحركة بحثاً عن الراحة.

كنت أعيش على وضع ال”auto pilot”- القيادة الآلية إن صحت الترجمة، أقوم بكل شيءٍ بشكلٍ آلي. وأتأمل رحمة الله بنا أن جعل الملذّات الصغيرة من طعامٍ طيب وعلاقات دافئة ورغبات وتمنّي سبباً للتصبّر على ثقل أيام البلاء وتمضية أيامه، فإذا انعدمت القدرة على الرغبة فيها أو الشعور بها صار لكل شيءٍ طعمٌ صدئ مرّ.

أحمد الله على فضله وأحتفي مراراً وتكراراً بكل رغبة وكل شعورٍ طيّب وحتى غير طيب، أعود للقراءة والكتابة ببطء، أعيد التفكير في المنتجات التي أتمنى تحويلها إلى واقع، إلى التخطيط لإجازتي السنوية القريبة القادمة، رغبتي في الحفظ والإجادة بالتجويد، رغبة الحديث الممتد لخمسة ساعات مع صديقتي التي يشكل فارق الوقت بينناً سبباً لتجمع الأحداث وتراكم القصص لنقضي هذه الساعات بمتعة ممتدة وننهيها ولم تنتهِ الحكايات.

لا يزالُ الألم هناك يشتد بين حينٍ وآخر، ولا يزالُ الواقع هو ذاته لم يتغير، لكني أحمد الله وأحتفي بعودة الشعور بهذه الانفراجات الصغيرة.

أيام مليئة بالرضا والفرج والعفو والعافية لي ولكم يارب.

أضف تعليق