أتناول الچرانولا المعدّة منزلياً وأنا في أكثر مكانٍ يمكن أن أعتزل فيه في مكان العمل المكتظ، تحتوي على نسبة قليلة من العسل حسب الوصفة التي قامت المختصّة التي أتابع معها بإرسالها لي، كلما آكل لقمةً يحوي طعمها القليل من تحلية العسل تتكرر في ذهني ذات الفكرة: هذا ما تجري به الحياة الدنيا، القدرة على الإحساس بالشيء الطيّب وإن كان ضئيلاً أو الأمل في ذلك في هذه الدار أو الأُخرى، يجعل المرّ ما بين الحُلوَيْن يمضي.
أثناء قرائتي للتفسير الميسر قرأت تفسير الآية ٢٥ من سورة البقرة التي تخاطب الحبيب صلى الله عليه وسلّم بأن “يبشّر أهل الإيمان بخبرٍ يملؤهم سروراً، بأن لهم في الآخرة حدائق عجيبة تجري الأنهار تحت قصورها العالية وأشجارها الظّليلة، كلّما رزقهم الله فيها نوعاً من الفاكهة اللذيذة قالوا: قد رزقنا الله هذا من قبل فإذا ذاقوه وجدوه شيئاً جديداً في طعمه ولذّته وإن تشابه مع سابقه في اللّون والمنظر والاسم.”، وسرح ذهني بعيداً في فطرة حبّ الجمال والميل له، وأن ما وُعِدنا به من الجمال الأخروي الممتد الذي لا ينفد هي آمالٌ من الجمال في المطعم والمشرب والملبس والمسكن والحال تتفق على التّوق إليها النفوس البشرية على اختلاف وتنوع مشاربها وأصولها وبيئاتها.
ثم تأملت أثر الميل إلى الجمال أو الإحساس به في حياتي، ثم اختياراتي، لا تهمّني أسماء الأشياء أو أسماء صانعيها، ولا ما يراه الآخرون من قيمةٍ في طبعة علامة على حقيبةٍ أو قميصٍ تدلّ على سعره، لكنّ لبّي يُسلب بجمال الأقمشة واللؤلؤ، ويمكنني قضاء السّاعات في تفحّص ما يقوم المصممون المحليّون بإنتاجه في محلّات متناهية الصّغر وأحاول استنتاج ما مرّ في ذهن صاحب القطعة عند العمل عليها.
قد “أستخسر” مبلغاً يُصرف فيما يراه الآخرون من المقتنيات، ولا أفعل ذلك في قطعة أثاث أو سجّاد لن يراها إلانا في المنزل، لما يستجلبه الجمال من الرضى المتكرر لعيني ثم نفسي.
قبل يومين، أخذت استشارةً مع أحد المختصّين المهنيين الذي أجرى لي اختبار “بيركمان” قبل عامين تقريباً، لأنني أرغب في استبعاد احتمالية أن أتخذ قراراً مصيريّاً عاطفيّاً غير منطقي لمن يراه من الخارج بترك أحد أكبر المنشآت ب”مسمّى” ووضع يرغب فيهما العديد، خاصّةً أن ظروفي المحيطة تعدّ الأقل مناسبةً خلال حياتي الشخصية لأخذ هذا القرار. سألني عدّة أسئلة عن عملي الحاليّ، ثم سألني ما الذي أرغب في الاشتغال به وإن لم تكن لديّ المهارة الكافية له، بعدها قال لي أنه لن يتمكن من أن يخبرني بالقرار الذي يراه مناسباً لي بسبب أخلاقيات عمله، لكنه يستطيع أن يطلب منّي أن أشاهد تسجيل الجلسة وألاحظ الفارق بين حالي عندما أجبته عن أسئلة العمل الحالي وحالي عندما أجبته عن المنتجات التي أطمح للعمل عليها يوماً ما.
أثناء جلوسي البارحة في مكتب مديري للتعديل على عرضٍ عدّة ساعات بدأت أشعر أن دماغي “يسيح” كما الثّلج من الحرارة المحتبسة فيه لأن ما أقوم به متكرر ولا يحتاج إلى مجهودٍ ذهني حقيقي منّي، فجأة خطر في ذهني البيت الشهير لعلي ابن أبي طالب -رضي الله عنه- “دواؤك فيكَ وما تُبصر، وداؤكَ منكَ وما تشعُر” بوضوح حاد، أنت الذي تُبصر نفسك وتفاعلها، هذا التفاعل الخفي عن كل بشري، وأنت تعلم مصدر الدّاء والإعياء الذي يُلمُّ بها، لا توجد اختياراتٌ خاليةٌ من الألم في الحياة الدّنيا، لكنك تختار نوع الألم الذي ستجدُ معنى في تحمّله، ألمٌ قد يصيبك ببعض الكبد الماديّ الجسديّ، لكنه لا يُشقي روحك.
وعلى غير سبيل الصدفة، عندما كنت أتصفح اليوتوب ظهر لي مقطع لمدوّنة يابانية -والمجتمعات اليابانية هي من أكثر المجتمعات تقديساً للعمل في عالم الشركات- قررت ترك عملها بعد عدة سنوات، تتحدث فيه عن خطوات عمليّة واقعية وعما يجب توقعه من ارتباط هويّات الأفراد والمجتمعات عموماً بوظائفهم وتوقع حتى الأثر المحتمل النفسي لذلك، تحدثت عن كتاب The Pathless Path لPaul Millerd الذي تحدث فيه عن رحلته الشخصية في إيجاد طريقه الشخصي بغير الطّرق المعبّدة مسبقاً. وعندما بحثت عن الكتاب وجدت أن الكاتب قرر نشر نسخة PDF مجانية بعد تحقيقه لمبيعات فاقت توقعاته: https://pathlesspath.com/#download
الفسيلة التي كنت أرغم وأقنع نفسي بغرسها ليست فسيلتي، وطينتي لا تناسبها أبداً، والعناية بها حتى تظل حيةً تحتاج مجهوداً ذهنياً ونفسياً ومن ثم جسدياً مضاعفاً ينزع منها أشياء طيّبة، لأن لا البيئة بيئتها ولا الماء ماؤها ولا الأرض أرضها.
“حاشا إلهي يُخيّبنا، وله مواهِب علينا جَم”