ثقوبٌ غير ملائمة لأي من أيام الأسبوع

يشاء الله ويقدّر لحكمةٍ يعلمها أن تكون في الحياة شخصيات هي ابتلاءاتٌ ناطقة فاعلة، فيها من مسببّات الأذى ما فيها، إلّا أنه أذى غير واضح أو ظاهر للعيان، بل هو خفيٌ يعرفه أهل البيت فقط. أذى مستمرٌ بطيء ممتد، ليس عنيفاً ولا صارخاً، لكنه دؤوب خفي يعلو كلما ظُنَّ فيه الخفوت.

تبدو دمثةً متعاطفة كريمة رحومة ناجحة للأعين الخارجية، لكنها كالثقب المظلم الموحش للأقربين، ثقبٌ ينزع الأشياء الطيبة من النفس ويبدلها بأشياء أقرب للبشاعة تضطرب النفس في التعامل معها، تفعل ذلك ببطءٍ لا يُدرَك حتى تظن الأنفس أن ذلك من مكوناتها، لا من آثار الأذى.

لا يمكن لها قطعاً فذلك ليس ممّا شُرِع، ولا منعاً لأن المنع لا يحصل معها إلا بالقطع، فإمّا أن تحاول الأنفس الهرب إلى كل شيءٍ تتلمس أحد أوجه الجمال والأنس فيه وإن كان في ذلك احتمال مضرّة ويصبح ذلك هاجساً وهَوَساً، وإما أن تغرق في محاولات مستميتةٍ لاستئصال المسحة المشوهة الداخلية غير المرئية.

حتى تقترب من حافّة اليأس لأن عمر تلك الشخصيات لم ينقضي بعد، وتلك اللسعات مع تقدم الأعمار ومضيّها تزداد آثارها حرارةً وندوباً ويتقلّص جَلَد التحمّل، فتجد الأنفس علاقات مضطربةً مع النفس ثم مع الآخر ثم مع الحياة عموماً، لتكون الثقة مصطلحاً من أحد اللغات المنقرضة، حتى في رغباتها وحديثها مع نفسها.

تتعايش وتعيش مع أسئلةٍ لا نضوب لها، مقاوِمةً لأن تكون نتيجةً حتميةً لذلك، ومحاوِلةً لأن تنقّب وتجد في نفسها بعض مواطن الأشياء الطيّبة.

طرقٌ طيّبة وَعِرة

أتناول الچرانولا المعدّة منزلياً وأنا في أكثر مكانٍ يمكن أن أعتزل فيه في مكان العمل المكتظ، تحتوي على نسبة قليلة من العسل حسب الوصفة التي قامت المختصّة التي أتابع معها بإرسالها لي، كلما آكل لقمةً يحوي طعمها القليل من تحلية العسل تتكرر في ذهني ذات الفكرة: هذا ما تجري به الحياة الدنيا، القدرة على الإحساس بالشيء الطيّب وإن كان ضئيلاً أو الأمل في ذلك في هذه الدار أو الأُخرى، يجعل المرّ ما بين الحُلوَيْن يمضي.

أثناء قرائتي للتفسير الميسر قرأت تفسير الآية ٢٥ من سورة البقرة التي تخاطب الحبيب صلى الله عليه وسلّم بأن “يبشّر أهل الإيمان بخبرٍ يملؤهم سروراً، بأن لهم في الآخرة حدائق عجيبة تجري الأنهار تحت قصورها العالية وأشجارها الظّليلة، كلّما رزقهم الله فيها نوعاً من الفاكهة اللذيذة قالوا: قد رزقنا الله هذا من قبل فإذا ذاقوه وجدوه شيئاً جديداً في طعمه ولذّته وإن تشابه مع سابقه في اللّون والمنظر والاسم.”، وسرح ذهني بعيداً في فطرة حبّ الجمال والميل له، وأن ما وُعِدنا به من الجمال الأخروي الممتد الذي لا ينفد هي آمالٌ من الجمال في المطعم والمشرب والملبس والمسكن والحال تتفق على التّوق إليها النفوس البشرية على اختلاف وتنوع مشاربها وأصولها وبيئاتها.

ثم تأملت أثر الميل إلى الجمال أو الإحساس به في حياتي، ثم اختياراتي، لا تهمّني أسماء الأشياء أو أسماء صانعيها، ولا ما يراه الآخرون من قيمةٍ في طبعة علامة على حقيبةٍ أو قميصٍ تدلّ على سعره، لكنّ لبّي يُسلب بجمال الأقمشة واللؤلؤ، ويمكنني قضاء السّاعات في تفحّص ما يقوم المصممون المحليّون بإنتاجه في محلّات متناهية الصّغر وأحاول استنتاج ما مرّ في ذهن صاحب القطعة عند العمل عليها.

قد “أستخسر” مبلغاً يُصرف فيما يراه الآخرون من المقتنيات، ولا أفعل ذلك في قطعة أثاث أو سجّاد لن يراها إلانا في المنزل، لما يستجلبه الجمال من الرضى المتكرر لعيني ثم نفسي.

قبل يومين، أخذت استشارةً مع أحد المختصّين المهنيين الذي أجرى لي اختبار “بيركمان” قبل عامين تقريباً، لأنني أرغب في استبعاد احتمالية أن أتخذ قراراً مصيريّاً عاطفيّاً غير منطقي لمن يراه من الخارج بترك أحد أكبر المنشآت ب”مسمّى” ووضع يرغب فيهما العديد، خاصّةً أن ظروفي المحيطة تعدّ الأقل مناسبةً خلال حياتي الشخصية لأخذ هذا القرار. سألني عدّة أسئلة عن عملي الحاليّ، ثم سألني ما الذي أرغب في الاشتغال به وإن لم تكن لديّ المهارة الكافية له، بعدها قال لي أنه لن يتمكن من أن يخبرني بالقرار الذي يراه مناسباً لي بسبب أخلاقيات عمله، لكنه يستطيع أن يطلب منّي أن أشاهد تسجيل الجلسة وألاحظ الفارق بين حالي عندما أجبته عن أسئلة العمل الحالي وحالي عندما أجبته عن المنتجات التي أطمح للعمل عليها يوماً ما.

أثناء جلوسي البارحة في مكتب مديري للتعديل على عرضٍ عدّة ساعات بدأت أشعر أن دماغي “يسيح” كما الثّلج من الحرارة المحتبسة فيه لأن ما أقوم به متكرر ولا يحتاج إلى مجهودٍ ذهني حقيقي منّي، فجأة خطر في ذهني البيت الشهير لعلي ابن أبي طالب -رضي الله عنه- “دواؤك فيكَ وما تُبصر، وداؤكَ منكَ وما تشعُر” بوضوح حاد، أنت الذي تُبصر نفسك وتفاعلها، هذا التفاعل الخفي عن كل بشري، وأنت تعلم مصدر الدّاء والإعياء الذي يُلمُّ بها، لا توجد اختياراتٌ خاليةٌ من الألم في الحياة الدّنيا، لكنك تختار نوع الألم الذي ستجدُ معنى في تحمّله، ألمٌ قد يصيبك ببعض الكبد الماديّ الجسديّ، لكنه لا يُشقي روحك.

وعلى غير سبيل الصدفة، عندما كنت أتصفح اليوتوب ظهر لي مقطع لمدوّنة يابانية -والمجتمعات اليابانية هي من أكثر المجتمعات تقديساً للعمل في عالم الشركات- قررت ترك عملها بعد عدة سنوات، تتحدث فيه عن خطوات عمليّة واقعية وعما يجب توقعه من ارتباط هويّات الأفراد والمجتمعات عموماً بوظائفهم وتوقع حتى الأثر المحتمل النفسي لذلك، تحدثت عن كتاب The Pathless Path لPaul Millerd الذي تحدث فيه عن رحلته الشخصية في إيجاد طريقه الشخصي بغير الطّرق المعبّدة مسبقاً. وعندما بحثت عن الكتاب وجدت أن الكاتب قرر نشر نسخة PDF مجانية بعد تحقيقه لمبيعات فاقت توقعاته: https://pathlesspath.com/#download

الفسيلة التي كنت أرغم وأقنع نفسي بغرسها ليست فسيلتي، وطينتي لا تناسبها أبداً، والعناية بها حتى تظل حيةً تحتاج مجهوداً ذهنياً ونفسياً ومن ثم جسدياً مضاعفاً ينزع منها أشياء طيّبة، لأن لا البيئة بيئتها ولا الماء ماؤها ولا الأرض أرضها.

“حاشا إلهي يُخيّبنا، وله مواهِب علينا جَم”

البحث عن الفسيلة

أستشعر رحمة الله سبحانه وتعالى بأمره لنا على لسان الحبيب صلى الله عليه وسلم بالاستمرار بالغرس وإن قامت القيامة، لأننا إن تُركنا لضعفنا وعجزنا ويأسنا قد نقرر عدم الجدوى ونستسلم للغرق. مع ما يحدث منذ أشهر لإخوةٍ لنا تصاغر كل شيء، وظهر سؤال المعنى والجدوى مرة أخرى، وكانت دائماً الإجابة الذهنية واضحة لأن الجدوى قد لا تكون مرئيةً لي لكنها مرئيةٌ هناك لأن الأمر كان بالسعي، إلا أن شعوري يكاد يكون منفصلاً عنها.

وعلى غير سبيل الصدفة -لأنه لا صدف- وقعت عيناي في كتابٍ على عبارة صاغت ما توصلت إليه بشكل أوضح: “الفسيلة لن تغير العالم، لكنك أمرت بغرسها ولو قامت القيامة، لأنك تجدها في ميزان حسناتك تثقله، وهذا هو المهم”.

لكن السؤال الأوضح المتكرر على ذهني كان: ماذا لو كان الشعور بعدم الجدوى ناشئٌ عن مدى حقيقة نفعية ما أغرس؟ ماهي فسائلي؟ ما هي فسيلتي؟

ما أغرسه وأسقيه يبدو لي كشجرةٍ يابسةٍ جافّة.

كنت أتصفح الرسائل الواردة إلى بريد العمل الالكتروني، قرأت أحدها و”نغزني” قلبي، انتابني شعورٌ أعرفه مصدره جيداً وشكله ونتيجته.

وكأنّ المُضغة الأهم في الجسد تأتي في ذيل قائمة ما هو مهم في واقع الحال. أحتاج إلى إعادة تقييم كل شيء، فالحاجة المستمرة لتخدير هذه المضغة حتى أستمر على ما أنا عليه لن تقتصر نتائجها على ما هو غير طيّب، فلا تملك اختيار الجزء المخدّر.

وذلك يحتاج إلى وفقةٍ مع كل شيء وتوقف عن معظم الأشياء لإعادة تحديد وتغيير المسار، فلا أحد يستطيع قراءة نفسه بدقة ورؤية حقيقتها وإجابة الأسئلة الكبرى وهو يركض لاهثاً بشكلٍ مستمر، وللوقفة والتوقف ثمن أحاول تحديد ما إذا كنت أستطيع تحمل ثمنهما الآني وطويل المدى.

أستيقظ السبت صباحاً، أعدّ الفطور بهدوء وأشعر أن جبلاً قد سقط من على كتفاي، يدخل الهواء لرئتاي مجدداً، فتكون الإجابة واضحة لما يجب علي تركه، لكنها غير واضحة أبداً عمّا يجب عليه فعله.

ربّنا هب لنا من لدنك رحمةً، وهيّء لنا من أمرنا رشداً.

شباك صغير

منذ أن عدت إلى العمل حضورياً وأنا أشعر أن كل شيءٍ أصبح مُربّعاً، لا أعرف كيف أصف ذلك بشكلٍ أوضح. لا أعرف من بادر بفكرة المكاتب المفتوحة الأشبه بالفصول المدرسيّة التي يكون المُلقي فيها والمتحدث شخصاً واحد، وليس ما يقارب أربعين أو خمسين شخصاً يتحدثون ويعملون في الوقت ذاته، لكنه على الأغلب أحد من كان يحاول جمع أكبر عددٍ ممكن من الموظفين بأقل تكلفة بلا جدران ولا أبواب ولا مساحةٍ تكفي ذلك.

أقوم بإعداد الإفطار في الخامسة لأخذه معي، كل يومٍ أعدّ نفس الإفطار الذي يبقيني ممتلئة وراضية: سبانخ مشوح على النار مع السمّاق وبعض الفلفل الأحمر المشوي المغمور بزيت الزيتون، وبيض وفتات جبن الغنم الفرنسي في خبز خميرة طبيعية محمّص. فكرت مراراً وتكراراً في تجربة اشتراكات إيصال الوجبات، إلا أنني أشعر أن الطعام الذي أعدّه بنفسي في المنزل مهما كان بسيطاً حتى وإن كان بيضاً مسلوقاً له طعمٌ مختلف، لا أدري إن كانت حيلةً نفسيةً عقلية أم أنها حقيقة.

المكيفات في العمل شديدة البرودة، أضطر للخروج كدجاجةٍ مجمّدة ل”أفُكَّ” ثلجي في عزّ الظهيرة ودرجة حرارة الرياض تقارب الخمسين. بعد الاستعداد صباحاً للخروج، تمتدّ يدي لأخذ حقيبة الطعام وحقيبة جهاز اللابتوب، وتتكرر في ذهني أغنية كانت افتتاحاً لأحد المسلسلات التي كنت أتابعها أيام الجامعة:

“Little boxes on the hillside,
Little boxes all the same.
There’s a green one and a pink one
And a blue one and a yellow one,
And they’re all made out of ticky tacky
And they all look just the same. And the people in the houses
All went to the university,
Where they were put in boxes
And they came out all the same,
And there’s doctors and lawyers,
And business executives,
And they’re all made out of ticky tacky
And they all look just the same.”

صناديق صغيرة تشبه بعضها بعضاً، يرتادون الجامعات ليوضعوا في صناديق، يتخرج منهم الأطباء والمحامون والتنفيذيون، يبدون كبعضهم بعضاً، وهذا ما أشعر أنني أتحول لأكونه؛ صندوق.

أعلم أنني مخلوقة لمعنى وحكمة، وأن الروح التي نُفخت فيني هي ما تصعّب تأقلمي على هذا المحيط، لأنه ينتزع من الأشياء أرواحها ومعناها، ويختصر كل شيءٍ في أرقام وشعاراتٍ واستراتيجيات بعيدةً شديد البعد عن المكوّن الرئيسي للإنسان الذي يجعله حيّاً حقيقةً ومجازاً.

يشبه الشعور ما وصفه كتاب (Rework) في أحد المقالات التي كانت تتحدث عن الشعارات الجوفاء، والتي قام فيها الكاتب بوصف وضع المنشآت التي تضع شعارات على الجدران منفصلة عن واقعها، كأن تكون في مكتب لتأجير السيارات، الغرفة شديدة البرودة، والسجاد متسّخ وليس هناك أحدٌ على المكتب للخدمة ولكن هناك ملصقٌ كبير على الجدار يتحدث عن أهداف الشركة التي تتمحور حول أن تكون الأفضل في خدمة العميل. أو تلك الأصوات الآلية المسجلة التي قد تتكرر وقتاً طويلاً أثناء الانتظار على الهاتف لتؤكد لك أهمية وقتك بالنسبة لها، وينهي ذلك الكاتب بأنه يفضل ألا يُقال أي شيء بدلاً من الأصوات المسجّلة التي تخبره بأهميته كعميل، لأنها آلة تسجيل أشبه بالروبوت ونحن نعرف الفرق بين الاهتمام الصادق والآلة التي تمت برمجتها لتتحدث بلباقة.

أجلس إلى مكتبي وأخطط أنني سأفعل شيئاً مختلفاً عندما أعود إلى المنزل ولن أجلس على الأريكة بإنهاك بانتظار وقت النوم لأنام، وأبدأ اليوم التالي من جديد على نفس المنوال، لكنني كل يومٍ أعود منهكةً من كمية الأصوات والبشرالذين أتعرض لهم فيكون طريق العودة صامتاً لا أستمع فيه إلى أي شيءٍ سوى مكيف السيارة، وكل ما أريده هو إخفات صوت عقلي ونفسي وقلبي والاستسلام لما يُمضي الوقت دون جهد.

لا أعلم إن كانت فترة وسأتقلم على كل ذلك بعد انقطاع يقارب الثلاثة سنوات عن العمل الحضوري، أم أن العمل عن بعد لهذه المدة جعلني أتنبه إلى القدر الكبير من الطاقة والوقت الذي يستغرقهما العمل الحضوري دون أن يكون لذلك أثر فارق على أداء العمل، إلا أن الاجتماعات تتكاثر بالانشطار، والشائعات والقيل والقال الذين يطرقون الأذنين باستمرار تكاد لا تتوقف.

بينما على الجانب الآخر في العمل من المنزل، لن يتصل بك أحدهم إلا لنقل خبر هام وقع فعلاً أو لمناقشة عمل يجب مناقشته، ويتبقى مساحة من الوقت للطهي والقراءة والتعلم والكتابة وواجبات صلة الرحم، وطاقةٌ ذهنية نفسية جسدية لفعل ذلك، وبالنسبة لي وهو أكبر فارق: قلبٌ أسلم.

لا أنكر أن خلال تنقلاتي العشر سنين الماضية تعرفت من خلال العمل على من أعتبرهم الآن أقرب الصديقات وأثمنهن، إلا أنني أعتقد أن مرحلتي الحياتية الحالية ونظرتي المختلفة إلى الأمور، وبيئات العمل الضخمة والاحتكاك المستمر “على الفاضي والمليان” يغرقني بأشياء غير طيّبة، قد أعرف بعض مسمياتها وقد لا أعرف.

عندما قمت بعمل اختبار مقياس بيركمان -وهو شديد الدقة- وجلست مع المستشار ليشرح لي نتيجتي، تأكد لي أن الطريق الذي يتوجب علي سلكه والذي يتوائم مع جبلتي مختلف تماماً، فملائمتي للثقافة التنظيمية عموماً شديدة الانخفاض. أخبرني المستشار حينها أن معظم من يقومون بعمل الاختبار لديهم نوعٌ من الملائمة مع الثقافات التنظيمية وإن كانت منخفضة، أما في حالتي فهي شبه منعدمة.

ثم أقول لنفسي: الدنيا كدا، ليس علي أن أتوائم مع أو أن تتوائم معي جميع المعطيات. لكن ما توصلت إليه هو أن هناك جبلّة ليس لها علاقة بتوقعات مثالية أو “بطر”. هنالك تركيبة نفسية ذهنية لا تختارها لنفسك، تتضمن جبلّتك التي تحوي الطيّب وما يحتاج إلى تزكيةٍ أيضاً، تتفاعل مع معطيات النشأة والبيئة والوالدين والمحيط، وذلك خارج الاختيار أيضاً، يغذي ذلك التجارب المستمرة التي لا تنقطع، هناك أشياء أصيلة تبقى كانت دائماً هناك، قد تغطي عليها مختلف العوامل، إلا أنها تظهر واضحة جلية حتى وإن كان ذلك بينك وبين نفسك وحتى إن تم إنكارها لفترات مطوّلة ممتدة وخفت صوتها، لكنها كصوتٍ في الخلفية لا يمكن تجاهله إلى الأبد.

بعد العامين الماضيين وما مررت به مما أعاد تشكيلي على أقل التقدير، فقدت القدرة على غض الطرف والتماهي، أعرف الأمور التي تستحق بذل الوقت والجهد والطاقة وتلك التي يظن ويدعي الأغلب أنها كذلك وإن لم تكن، وأصبحت قدرتي على مخادعة نفسي أقل، أعلم أن ألم اختلاف الرحلة والتجربة وخوض المجهول أخف وقعاً من ألم استمرار المسير في الطريق تفادياً للمجهول الغير معروف، والثمن في المعروف المألوف الذي قد لا يكون مناسباً أبهظ وأثقل.

وضعت خطاً زمنياً لنفسي وإن كان ذهنياً فقط، لكنني أحتفي داخلياً هذه الأيام حتى بهذه الرغبة في التغيير، أحتفي بعدم الراحة الذي يجعلني “أحرك وأفرك” في مكاني باحثةً عن الوضعية المريحة، لأن الشهور الطوال التي مضت والتي خلت تقريباً من أي رغبة أو أي شعور جعلتني أحمد الله حتى على الألم الذي يدفع إلى الحركة بحثاً عن الراحة.

كنت أعيش على وضع ال”auto pilot”- القيادة الآلية إن صحت الترجمة، أقوم بكل شيءٍ بشكلٍ آلي. وأتأمل رحمة الله بنا أن جعل الملذّات الصغيرة من طعامٍ طيب وعلاقات دافئة ورغبات وتمنّي سبباً للتصبّر على ثقل أيام البلاء وتمضية أيامه، فإذا انعدمت القدرة على الرغبة فيها أو الشعور بها صار لكل شيءٍ طعمٌ صدئ مرّ.

أحمد الله على فضله وأحتفي مراراً وتكراراً بكل رغبة وكل شعورٍ طيّب وحتى غير طيب، أعود للقراءة والكتابة ببطء، أعيد التفكير في المنتجات التي أتمنى تحويلها إلى واقع، إلى التخطيط لإجازتي السنوية القريبة القادمة، رغبتي في الحفظ والإجادة بالتجويد، رغبة الحديث الممتد لخمسة ساعات مع صديقتي التي يشكل فارق الوقت بينناً سبباً لتجمع الأحداث وتراكم القصص لنقضي هذه الساعات بمتعة ممتدة وننهيها ولم تنتهِ الحكايات.

لا يزالُ الألم هناك يشتد بين حينٍ وآخر، ولا يزالُ الواقع هو ذاته لم يتغير، لكني أحمد الله وأحتفي بعودة الشعور بهذه الانفراجات الصغيرة.

أيام مليئة بالرضا والفرج والعفو والعافية لي ولكم يارب.

بهتان

أحاول مقاومة مرحلة “البهتان” هذه، وكأن كل ما جرى العام الماضي من الأعاصير والفقد قد أفقد الأشياء الكثير من لونها. أقرب لصمتٍ مدوٍ يلفّ كل شيء، ليس صمتاً فيه سَكينة، بل صمتٌ مريب.

أو أن الأشياء التي كنت أجدها “ملوّنة” لم تعد هي نفسها، تبدّلت أماكن الأشياء في نفسي وأحاول إعادة التعرّف على ما الذي يعيد للأشياء الرماديّة بعض اللون. على الرغم من أن الصورة الذهنية لل”بهتان” هي خفوت اللون وضعفه، إلا أن عصراته مفزعة، تشتد قبضته أياماً وأوقاتاً وترتخي ساعاتٍ أخرى.

أبحث داخل نفسي عن الوجهة الجديدة، لأنني أصبحت “أستوحش” القديم، أو ما كنت أعرف وأألف، الطريق اختلف وكذلك خارطته وغايته ورغباته، فالرغبات والغايات أصبحت فجأةً فراغاً خاوٍ (أجد أن هذه أفضل ترجمة لvoid)، وهذا أكثر ما يخيفني. أذكّر نفسي بأوقاتٍ ظننت فيها أني وجدت ما أبحث عنه، وأوقاتٍ أخرى كنت أتمنى حصول أمورٍ وأخطط لها ولي باعٌ وجَلدٌ على التمني والبدء بخطوات صغيرة، محاولةً مني لتحريك هذا الفراغ المُصمت في نفسي، لكنني أشعر أنني كنت شخصاً آخر، فتزيد الغربة في نفسي عن نفسي.

أظن وأتمنى وأدعو أن تكون هذه مرحلة تسبق مرحلة الاكتشاف، الركود الذي يسبق النشاط المثمر، والهدوء الذي يليه حركة منعشة، والصمت الذي يعقبه حديث طيّب وضحك وأصوات فرح، والعتمة التي تكون نهايتها نور، والضياع الذي ينتهي بثباتٍ راسخ حكيم.
لا لأي شيء سوى أني أمَةٌ لرب كريم وظني فيه هو كل خير، مهما طال الألم وبدا بلا نهاية وغدت الظلمات فوق بعضها، ومهما غابت الحكمة عن فهمي القاصر، ومهما ضِقت وتُهت وأغلق الباب تلوَ الباب، وترك الفقد طعمه على كل شيء، إلا بابه سبحانه وباب دعائه ومناجاته، وكلّ ما وجهني لذلك هو خير مهما كان ظاهره. فهو سبحانه الذي أراد أن يكون هذا الألم المستمر سبباً في ألا ينقطع دعاءه من نفسي في صحوي وتقلبي في منامي، وهذا لا يمكن أن يكون إلا خيراً ممن هو الخير منه وإليه سبحانه.

أسأله الرّضا لي ولكم، وبرد يقينٍ يجعل الألم برداً وسلاماً، وإيماناً ثابتاً وحسن ظنٍّ لا يهزّهما أي حادث.

“فيَا ليالي الر​ّضا عليْنا، عودي ليخضرّ منكِ عودي 🌱”

فبراير-٢٠٢٣

في حصص العلاج الطبيعي والوظيفي اليومية في مركز إعادة التأهيل، كنت أقضي معظم وقتي في تأمّل المرضى ومرافقيهم، ومع مرور الأيام أصبح هناك نوعٌ من المعرفة المألوفة دون أي تواصلٍ أحياناً كثيرة، أستقرئ قصصهم وعلاقاتهم وحالاتهم.

أحدهم لا يتجاوز الثالثة عشرة من عمره وهو أصغر الموجودين في ذلك الجناح، يرافقه والده الذي لا يبدو صغيراً في السن وتبدو معاني الرحمة ظاهرة وواضحة في نظراته وتعامله معه وحنوه عليه، كانت اعتراضاته المتكررة على التمارين وتجاوب المُعالج مع تلك الاعتراضات بمناكفته تضفي بعض الحراك على قاعة التمارين الجامدة وترسم ابتسامات على أوجه الموجودين.
معظم التمارين التي يتوجب على الابن تكرارها تتسبب في ألمه إلا أنها ضرورية ليتمكن من استعادة قدرته على المشي بعد العملية التي أجراها، فكان المعالج والأب يتجاوبان مع شكواه منها أحياناً نادرة، وفي الغالب يقوم الأب بإسكاته بابتسامة: “أسسس، سوي اللي يقلك عليه ولا تتشكّى”، ويجيبه المُعالج أحياناً أخرى: “كل شي في بدايته مؤلم، بس لو ما أتألمت الآن مارح تقدر تمشي كويس، تبغى تمشي نص نص ولا ترجع تمشي كويس؟”

وأفكر بيني وبين نفسي: أحتاج لمعرفة متى أُسكت نفسي عن تذمّرها و”عنفصتها” ومتى أعرف أن ذلك سيؤدي بها إلى مواطن ضعفٍ تأتي على جبلّتها وتكوينها فتهوي بها.

وبشكلٍ عام كل ما كنت أفعله المدّة الماضية هي إسكاتها، لأنني إن استمعت إليها لرفعت يدايَ عن كل شيء ولم أقاوم للنهوض من السرير يومياً.

ينبع هذا الشعور بالغرق أنني قبل عدة أشهر وقبل الحادثة بأيام كنت على وشك اتخاذ قرارٍ مصيري سيغير شكل حياتي، أمضيت سنواتٍ في محاولة التأكد من صحته، وعندما حصل ما حصل بقيَ الوضع معلقاً لأن الوقت لا يناسب اتخاذ مثل هذا القرار بتاتاً فنتائجه لن تؤثّر علي وحدي. أصبح تعاملي مع كل ما حصل ليس ثقيلاً بسبب ما حصل فحسب، بل لأن قدمايَ ليستا ثابتتين على أرضٍ واحدة: بل قدمٌ تخطّت بوابة الخروج وقدمٌ لا تزال داخلها، وبالتالي أصبح الأصل في التعامل مع كل المُعطيات هي عدم الراحة، لأن الوضع حتى في حالة الثبات ومحاولة التقاط الأنفاس غير مريح.

في كلّ مرةٍ أكون فيها على وشك الجزم خلال الأعوام الماضية يحصل ما يعرّض اتخاذ القرار للشلل تماماً، استخارات وصلواتٍ ودعوات، أعلم قطعاً أن علمني وفهمي قاصرين، وأن ما أعتقد أنه أفضلٍ خيارٍ لي قد يكون الأسوء، والعكس كذلك. الإنسان كائن معقد، وعندما تمر تجاربي ونشأتي التي حوت على أضدادٍ لا تلتقي ولا تتقاطع مع المحيط العام والخاص على ذهني، أفكر ما إن كنت سأتمكن من إيجاد ما أركن إليه في هذا العالم أساساً.

أجلس على الكرسي إلى مكتبي ويرتفع صوتٌ شديد اللؤم: ها أنتِ تعودين إلى نقطة شبيهةٍ بنقطة الصفر تلك، ما الذي نفعتك به محاولاتك سوى تأكدك من أن كل شيء يسوقك إلى نفسِ النتيجة؟ ألا تستطيعين النظر إلى بداية القصة وامتدادها؟ كيف لذلك أن يتغير جذرياً خارج السنن الكونية؟
يبدأ الغباش يغطي معظم الشاشة، أشعر أن عينايَ أقرب لبئر طافحٍ، أبتلع ذلك وأكمل العمل في صمت.

تتدهور حالة خالي -رحمه الله- في أسابيع معدودة، أحجز لي ولوالدتي رحلة مساء الأحد الماضي بعد نهاية يوم العمل إلى جدة للسلام عليه لأن علامات المنازعة أصبحت بادية، نتلقى اتصالا​ً صباح الأحد من ابنته لتبلغنا خبر وفاته رحمه الله.
للمدن هويات معينة في النفس تأخذها من الارتباط مع قاطنيها، وجدّة في نفسي تعني بيوت الأخوال التي آلفها منذ طفولتي، المزحات المتكررة التي لا تتغير مع تقدمي في السن، تأمل والدتي وهي بين أقرانٍ يعرفونها ويعاملونها كشخصٍ موازٍ مساوٍ لا وفقاً لقوة شخصيتها -حفظها الله- ولا درجة علمية ولا منصب، فتنال من نصيب ذلك المزاح والمناكفة ما ننال. المعرفة المتشاركة الممتدة لأجيال، والشعور بأني جزء من هذا الامتداد التي قد لا أعرف تفاصيله لكني أشعر به يروي ظمأً أصاب الجذور دون أن أعي ذلك.

يتغير وقع هواء المدن في النفس، ويتبعها الشعور بالألفة اتجاه تفاصيل الواقع، ويصل ذلك إلى نفسي. أشعر بتغير أصيلٍ فيها، أجد نفوراً مما كنت أحب وآلف سماعه وقراءته ومشاهدته والحديث عنه، وإقبالاً وراحةً في وعلى غير ذلك.

من اللحظات الواضحة في ذهني هي جلوسي لبعض الوقت في الهواء الطلق في المركز، تأمل الكون والبشر الذين فقدوا بعض أو كل قدراتهم، بعضهم من ولِد كذلك والآخر الذي تعرض لعارضٍ تسبب له في ذلك، تمرّ على نفسي معانٍ مهيبة لا أستطيع وضعها بوضوحٍ في كلمات، معاني قدرةٍ وقهرٍ وهيبة وكمال وقوة مطلقة، ومعاني ضعفٍ ونقصٍ وقصر وانعدام حيلة.
وتتبدل الأحوال والأفهام في نفسي، يظهر كل شيء كحقيقة واضحة جلية حادة، كأن بصري ووجودي قبلها كان غباشاً، كقلم رصاصٍ مستهلك تعرض لل”بري” فأصبح شديد الحدة.

إنا لله وإنا إليه راجعون، كل ما عدا ذلك غباش ومُدخلات تجعل من كل حقيقة أمراً مُستبعد الحدوث، وتجعل الخيال أقرب للواقع منها.
أحاول فهم ما حدث بشكلٍ متتالٍ، أن كل متكأٍ ما أن أضع رحلي فيه حتى تغير وتبدل سريعاً، ويقع في فهمي أنها تخليةٌ للنفس وتثبيتاً للحقيقة وإن كانت ثقيلة.

لا يمكن للنفس أن تألف الاغتراب وإن اعتادته، ولا الألم وإن قَوَته، ولا اليأس وإن عجنها وعجنته، ولكن كل ذلك يمر برحماتٍ وألطاف خفية لا تدركها الأذهان.
“ربّنا ما خلقتَ هذا باطلاً”

اغتراب

أيامٌ أستيقظ فيها وأشعر بأني قادرة على التعايش مع مشاعر الفقد المستمرة التي أتمنى أن تخفّف الأيام حدتها، أشعر بنشاطٍ وأعدّ فطوراً طيّباً وأنجز مهامي دون أن أجرّ أقدامي لذلك. تكون هناكَ سَكينةٌ في نفسي تمكنني من الاتزان بين الألم والعمل.

وأيامٌ أخرى يفاجئني فيها شعورٌ حادٌّ بالحنين والذهول من تغير وتبدّل الأحوال المفاجئ، وتمر عليّ أحداث هذا العام ذهاباً وإياباً كآلةٍ معطوبة لا تستطيع الوصول إلى وجهتها. أمسك بالكوب لأملئه بالماء الحار، فيهبّ علي شعورٌ غير مريح خانق، اشتريت هذا الكوب قبل تسعة أشهر تقريباً، كنت في حالٍ غير الحال، وكانت لدي رغبات وآمالٌ، أشعر بضيقٍ لشعوري بأني شخصٌ مختلفٌ تماماً، أحاول أن أعيد تمسكي بأي رغبة كانت لدي ولا أتمكن من ذلك.

“فكأنها وكأنهم أحلامُ”، أجلس في اجتماعٍ متعلق بالاستراتيجيات والأهداف، كأن من يتحدثون ينتمون إلى عالمٍ مختلفٍ ومنفصلٍ تماماً عن عالمي، وكل ما يتفوّهون به يبدو فارغاً من المعنى والحقيقة والجديّة، كل شيءٍ يبدو مُفتعلاً. فكل ما هو حقيقي يقبع خارج هذه العلب، أو هكذا أشعر.

لديّ كما لدى معظم البشر عدّة أعمدةٍ من البشر كانوا متكّاً عندما تصبح الريح شديدة، وظلاً لطيفاً عندما تصبح الحرارة حادّة، فقدت أربعة منهم لأسباب مختلفة هذا العام، ولا أشعر أني قادرةٌ على استعادة توازني، أحدها فقدٌ أعيد استيعابه يومياً كلما حاولت محادثتها وهي بوعيٍ وقدراتٍ تختلف تماماً عمّا كانت عنه قبل عدة أسابيع، أحاول تقبّل أنها شخصٌ مختلف عما كانت عنه قبل الحادثة، ويتركني ذلك مع شعورٍ ممتد بالاستيحاش والشوق.

أميل للصمت حتى في حضرة الآخر الذي كنت أميل للتحدث معه، أجد رغبةً في التواجد في الأماكن المفتوحة فقط والنظر إلى خلق الله من غير البشر، ميلاً للقراءة والكتابة والعزلة. أحاول تلمّس مواضع الألفة لأن الاغتراب عن النفس والآخر والحياة يغمرني، ولا أكاد أجدها إلا في المناجاة المستمرة.

لن أقول أثقلتني الخسائر ولا الهزائم وإن كان يثقلُ علي حتى حمل جِلدي أياماً كثيرة، لأني أكرر إعادة تعريف الخسائر على نفسي أملاً في تغيير انطباع الأحداث عليها، فالآلام لا تعني الخسارة، وكلّ ما تسبّب في تقريبي إلى فهم حقيقة الدنيا وبأن تكون لي أورادٌ وأذكارٌ تحفظ عليّ نفسي وعقلي لم أتمسّك بها مسبقاً لا يمكن أن يكون باطنه إلا رحمة.

لكنّي أقول أن الألم شديد والأيام صعبةٌ ثقيلةٌ تكاد تجهز على أي شيءٍ طيّب في نفسي، أصبحت أتوجس من الاستيقاظ لأني أكون في صراع مستمرٍ حتى لا أفقد اتزاني تماماً، كنت أعتقد أني أكثر جَلداً ومعرفةً و”مدقدقة”، لكني لستُ سوى مخلوقٍ ضعيف لا يملك من أمر نفسه ولا الآخرين شيء.

أحاول تلمّس الطريق أمامي لكنّي لستُ أقوى على ذلك، أملي وسؤلي هو أن يغسل الرحمن سبحانه بالرّضا نفسي وقلبي، وأن ينزل عليهما سكينةً لا يهزها شيء، كلّما ضاقت عليّ نفسي أضع يدي على قلبي وأقرأ السبعة فواتح.

أذكّر نفسي أن كل ما حصل مجرّد أسباب، وأن ما أمرّ به مقدّرٌ عليّ ولي منذ أن كنت نطفةً، وأرجو ألا أتجاوز هذا إلا بقلبٍ أكثر رقّة ورحمةً ورضى لا قسوةً وجفاء.

“إلهي: كلُّ ما أقوله فأنت فوقه، وكلُّ ما أُضمِرُه فأنت أعلى منه، فالقولُ لا يأتي على حقك في نعمتك، والضمير لا يحيط بكُنْهك، وكيف نقدر على شيء من ذلك، وقد ملكتنا في الأول حين خلقتنا، وقدرت علينا في الثاني حين صرفتنا؟ فالقول وإن كان فيك فهو منك، والخاطر وإن كان من أجلك فهو لك، من الجهل أن أصفك بغير ما وصفتَ به نفسك، ومن سُوء الأدب أن أعرِّفَك بغير ما عرَّفَتني به حقيقتُك، ومن الجُرأة أن أعترض على حُكمك وإن ساءني، ومن الخِذْلان أن أظُنَّ أن تدبيري لنفسي أصلحُ من تدبيرك، كيف يكونُ الظنُّ صواباً والعجز مني ظاهرٌ والقدرة منك شائعة ؟ هيهات: أسلمتُ لك وجهي سائلاً رِفْدَك، وأضرعت لك خدي طالباً فضل ما عندك، وهجرتُ كل من ثناني إلى غيركُ، وكذَّبتُ كل من أيأسني من خيرك”
-أبو حيان التوحيدي – كتاب: تسبيحٌ ومناجاةٌ وثناء على مَلِكِ الأرض والسّماء

تدوينةٌ لا تناسب يومَ الخميس.

أحاول الاستسلام لغفوةٍ قصيرة بعد صلاة الفجر، من شروطها أن أقوم بفتح الستائر لكي تدخل أشعة الشمس عندما تشرق بشكلٍ كامل، وأن تكون على الأريكة وأن أكون لا أزال مرتديةً رداء الصلاة، أخادع نفسي بأن ذلك سيمنعني من الاستسلام لنومٍ عميق وبالتالي سيكون الاستيقاظ أسهل، إلا أن هذه الطريقة بالطبع تتسبب في نومٍ أعمق.

لكنني أعيد الكرة كل يومٍ تقريباً، وكأنني إذا لم أعد للنوم على السرير فلن يكون ذلك نوماً حقيقياً.

منذ عدة أسابيع ودون تخطيط مسبق وللتقليل من تراكم المهام بمختلف أنواعها، قررت بيني وبين نفسي أنني لن أستخدم وسائل التواصل الاجتماعي حتى أنتهي من جميع المهام سواءً كانت متعلقة بالعمل أو المنزل أو القراءة أو البحث أو الرياضة، ووجدت أن اليوم الأول انتهى تقريباً وأنا لم أنتهِ من جزئية القراءة التي يفترض أن أنهيها.

ثم فكّرت أنها ستكون فكرةً جيّدة أن أحاول عدم الدخول إليها أو استخدامها لأطول فترةً ممكنة، خاصةً أن المعطيات الحالية لسببٍ أو لآخر أشعر أنها تدفعني لعزلةٍ من نوعٍ معين، عزلةٍ تشبه “تعزيل” المنزل ابتداءً من استخراج أدوات المطبخ من الدواليب لتنظيفها وانتهاءً بتلميع النّجف والجدران.

فالصديقة المقربة التي كنت أراها عدة مرات في الأسبوع لم تعد مقيمةً هنا، والأخرى أصبحت المسافة بين طريقينا شاسعةً مترامية الأطراف، لا تزال أبوابنا وقلوبنا مفتوحةً لبعضنا البعض، لكن منطلقاتنا لم تعد متشابهة، وحبيبةٌ قريبةٌ أثيرة رحلت للدار الآخرة في رمضان، وعلاقةٌ أخرى ذات دورٍ رئيسي تقترب من آخرِ فصولها.

وبطبيعة الوضع الحالي وعملي من المنزل حتى تنتهي أعمال الإصلاح في مقر العمل، أقضي معظم اليوم لوحدي. شعرت أن هذه فرصة قد لا تتكرر بعد الآن، وبما أنني على وشك اتخاذ قراراتٍ مصيرية، فكرت لمَ لا أستغل هذه الفرصة ليكون كل شيءٍ على السطح دون أي مؤثرات خارجية.

اليوم الثاني كان أشد صعوبةً. عندما قرأت وسمعت تجارب الآخرين في ابتعادهم عن وسائل التواصل الاجتماعي لفترة، تكرر شعور بضعٍ منهم بغضبٍ غير مبررٍ في الأيام التي تلي اليوم الأول، ثم تبدأ المشاعر بالاستقرار بعد الأسبوع الأول تقريباً.

أما بالنسبة لتجربتي، فقد ظهر على السّطح حزنٌ غريب ممتد، امتداد صحراءٍ شاسعة، لا أعلم أين كان مختبئاً فحجمه قطعاً يفوق أي مكانٍ مناسبٍ للاختباء، لكن لأنه لا مهرَب منه، تنبهت أن وسيلة تخفيف الشعور الأولى التي لا تحتاج إلى تفكير كانت حمل الهاتف النقال وتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، فأصوات الأفكار فيه تُخفِض هذا الصوت في رأسي ونفسي وتجعله قابلاً “للهضم”. أما دون ذلك فالصّوت مرتفعٌ وحادٌ جداً.

كنت أستمع لأحد اللقاءات أثناء المشي اليومي، وكان في حديث المُلقي ما مفاده أنه قبل تزكية الإنسان لعلاقته بنفسه وبالآخر، عليه أن يعمل على تزكية علاقتها بالله أولاً، فقد يوجّه الأغلب اعتراضاتهم وأسئلتهم وغضبهم على الآخرين في حياتهم، بينما هي في حقيقتها وجذرها أسئلة متعلقة بأساس وجود الإنسان، كَ”لِمَ ولدت لهذين الأبوين؟ لِمَ اختير لي أن أكون أنثى؟ لِمَ حصل لي ما حصل في عمرٍ وقوّةٍ لم أملك فيهما دفع ذلك عنّي وحدّد ذلك السمة الغالبة في نفسي وحياتي؟وو…”، فوجدت لذلك في نفسي وقعاً مهيباً، وكأن أحدهم أضاء منطقةً في عقلي لم يصلها النور مسبقاً.

فعندما أعطى مثالاً على السؤال المتعلق ب”لِمَ خُلِقتُ أنثى”، وجدته وقع في نفسي موقعاً أصاب عدة أمورٍ رئيسية، وكأنه السؤال المخبئ الذي كنت لا أجرؤ على النظر إليه أو اعتباره موجوداً. وبدأت رحلةً طويلةً لا أزال في بدايتها من محاولة فهم حقيقتي كأنثى، والمقام الذي أقامني الله فيه عندما خُلِقت أنثى، بعيداً عن المقام الذي أقامني فيه المجتمع والإعلام والعرف الذي أُخضِعت له الأحكام الشرعية لا العكس، بعيداً عن تجربتي الشخصية التي أدّت إلى أن أكون ردة فعلٍ طويلٍ بطول سنيني على هذه الأرض، ردة فعلٍ غاضب حانق.

من أنا كأنثى خارج تلك التشوهات جميعها؟ وما هي طبيعتي دون ذلك؟ ماهي حقيقة ذلك دون تلك الأصوات المرتفعة من الجانبين التي تخلّ بصلة المرء بخالقه ثم بنفسه؟

وكيف أصل لبرّ الأمان في ذلك الفهم دون أن يكون لنفسي البشرية التي فيها من الضعف ما فيها ورغباتي الغَلبة على الحقيقة، وما هي الحقيقة دون تشويهات الميول الشخصية التي نالت منها ما نالت، ولكن دون أن تتحول الحقيقة من وجهٍ آخر إلى أداةٍ لتلبية نفوسٍ بشرية أخرى فيها من الشوائب ما فيها.

بدأت أحاول العودة لتعريف الأساسيات وتحسس الجذور وقرائتها وفهمها، ووضع أسئلتي على الجانب لأسأل من أثق بأنهم أكثر الموجودين اتزاناً في هذا الجانب دون إسقاطاتٍ للتفضيلات والميول الشخصية. وفهمت أهمية السياق الكامل لكل شيء، فانتزاع الأمور من سياقاتها بشكل مستمرً أدى ويؤدي إلى تشوهٍ وتشوهاتٍ مضادة. السياق رئيسي في فهم المعاني والمقاصد، وانتزاع الأمور من سياقاتها بشكلٍ جزئي لخدمةٍ ميلٍ أو آخر يؤدي إلى إخلالٍ مستمر بالاتزان.

كل السياقات مهمة ولها آثارها، حتى سياقي الشخصي، لا شيء منتزعٌ ولا نشاز.

عُدت إلى الخبزِ والطّهي، بدأت أعرف الأمور التي كنت أتهرب منها، الأمور التي كنت ألتفت لمختلف الوسائل لتشبع حاجاتي إليها.

وأعتقد أني كنت من أواخر الواصلين لأعراض الڤايروس الذي لم يعد مستجداً، أُصِبت به قبل أسبوع تقريباً، وما دعاني للشك هي آلامٌ جسدية غير مألوفة، لكن بفضل الله كانت الأعراض العامة كأعراض بردٍ موسميّ معتاد.

أثناء فترة العزل والبقاء في المنزل، كنت واقفةً في المطبخ لأعدّ بعض الفلافل المخبوزة المنزلية، تلقّيت اتصالاً من أختي، سألتني إذا ما كنت واقفةً وطلبت مني الجلوس. أخبرتني أن أختنا الكبرى -وهي في دولةٍ أخرى لأغراض العمل تبعد عنا سبعة ساعات بالطائرة- قد أُصيبت بعرضٍ صحيٍّ طارئ أُدخلت على إثره للمستشفى، وأنها ستحتاج إلى إعادة تأهيلٍ لاستعادة النطق والحركة، ولا يستطيعون تحديد مدى التحسن الممكن ولا سرعة الاستجابة.

يكون تلقي الخبر في بدايته ذا صوتٍ خافت، أغلق السماعة وأذهب لإكمال مهامي باعتيادية، ثم يبدأ صوته بالارتفاع شيئاً فشيئاً، ويبدأ كل شيءٍ بالتضاؤل. كل شيءٍ يبدو صغيراً شديد التفاهة رمادياً. تتراءى إلى ذهني صورتها وهي وحيدة في بلادٍ أخرى تحاول التواصل مع الإسعاف لشعورها بأعراضٍ غريبة، ثم صورتها الآن وهي ملقاة لا تستطيع الحديث ولا الحراك، ونصف وجهها خالٍ من أي تعبير. ثم أشعر بهذه المسافة تتضاعف وبالبعد يعتصر جوارحي ويصبح التنفس صعباً.

أشعر بكل ما حولي يتحوّل إلى اللون الرمادي، كنا قبل عدة أيام نتراسل محاولةً لتنسيق موعد لأنضم إليها عدة أيام، كيف يتغير كل شيء بشكل سريع، وكيف يصبح من يلوّن جزءاً كبيراً مني ومن جودي ونظرتي للأشياء يحتاج إلى إعادة تعلّم النطق والكلام، هي التي علمتني معظمه.

أسمع كل شيءٍ يتفتت بصمتٍ تحت ثقل وجودي، ويخيفني شعوري بأني توقفت عن القدرة على الشعورِ فجأةً، سيّئه وحسنه. يخيفني ذلك أكثر من الألم، فاللاشعور أجوفٌ فارغٌ أصمّ تبتعد فيه عن كل شيء وتشعر أن كل حركة وكلمة تحتاج إلى مقاومة وإلى مجاهدة الثقل الذي يجرّ قدميك.

أستطيع أن أقول أن هذا العام يحوي أعواماً عِجافاً فيه، تمرّ الأيام فيه على جميع مفاصلي السليمة وتطرقها بلا هوادة، تقلبت أحوال من أحب فيه وفقدت أحباباً وابتعدت عن آخرين قسراً، ويبدو استيقاظي اليومي للعمل كأسخف شيءٍ على وجه البسيطة، أن أؤدي مهامي بنفس الهدوء كثقلٍ يكاد يجهز على أنفاسي، أقاوم الرغبة في انتزاع نفسي من ذلك جله والاستسلام التام لهذه الأحداث الثقال مقاومة الغريق الذي يتمسك بقشةٍ بكل ما أوتِيَ من قوةٍ بأظافره وأسنانه وأطرافه.

أحاول بكل ما بقيَ أن أتمسك بالأمل، لا لأن ذلك يحوي أي منطق بشري بناءً على المعطيات، بل كلما شعرت بأن نفسي بدأت بالانزلاق ينتشلني صوتٌ يردّد “لا تيأسوا من روح الله”، لأن من خلق النفس هذه وسوّاها العالم بكل ذرّة ألم تمرّ بها أمر بعدم اليأس من روحه سبحانه. والعام هذا لا يصحّ إلا أن يكون محاولةً للتخلية، أن أخلّي نفسي من مرادي منها وأفهم مراده سبحانه منها، وأن أنجو بجَلَدٍ وجِلدٍ قاسٍ دون أن يصل ذلك لقلبي، بل يزيده محبّةً وليناً وصِدقاً وحكمةً ومعرفةً صافية.

“ستجيءُ سبعٌ مرةٌ فَلتَخزِنوا من حكمةِ الوَجَعِ المصابرِ سُكّراً، سبعٌ عجافٌ فاضبطوا أنفاسَكم من بعدها التاريخُ يرجعُ أخضراً”

عيش مقمّر

ذاكرتي عن اليوم ضبابية، بدأ يومي في الساعة الرابعة والنصف صباحاً، خلدت إلى النوم مبكراً بالأمس وكان نومي مليئاً بالاستيقاظ المتكرر لأنني أعرف كمية المهام المتداخلة التي تنتظرني اليوم التالي.

جلست إلى مكتبي في السادسة لأن هناك مهاماً أحتاج للدخول في معارك معها لإنهائها، من النوع التي أعرف أنني سأنهيها بشعرٍ متطايرٍ في الأرجاء ونظارات تحمل بعض الخدوش على عدساتها جرّاء إزالتها وإعادتها وتحريكها بشكل مستمر، معلوماتٍ تتعلق بنواحٍ مالية ضريبية لا أفقه فيها الكثير وأحتاج إلى قراءة مصطلحاتها عدة مرات علّ أحد هذه الإعادات يفتح نفقاً جديداً مسدوداً في ذهني. سألت الله البركة والمعونة قبل البدء وتنبهت أنه لم يخطر لي سابقاً الدعاء بذلك قبل البدء في المهام الثقيلة، ولاحظت أثر ذلك في أنني أنهيت كل المؤجل الثقيل بنهاية الساعة السادسة والنصف مساءً.

ما أتذكره بوضوح هو انتباهي للهدوء التام في ساعة الاستراحة التي أخذتها لتناول الإفطار، صوت غليان المياه التي يُسلق فيها البيض، رائحة الخبز الذي تتحمّص أطرافه أو (تتقمّر) كما نقول في لهجتنا. أصبحت أنتبه أكثر مؤخراً إلى أن أذني تشتاق إلى سماع المصطلحات المألوفة، تصوّر إحداهنّ والدتها وهي ترتدي (شرشف) الصلاة لتسألها بعض الأسئلة، فتقول لها والدتها: (أبغى أغلّق صلاتي)، استغربت من أن هناك أمهات أخريات يستخدمن ذلك للإشارة لإنهاء السنن والفريضة المرتبطة بذلك الوقت غير والدتي وجدتي رحمها الله.

ثم سرحت -وكان ذهني يحتاج إلى السرحان- في بيت جدتي رحمها الله، في (مسافعها) الملوّنة التي كانت تحرص على اختيارها بعناية وتعطيرها لتبقيها ملتفة على رأسها بارتخاء طوال اليوم. رفاهية أن يحبك أحدهم دون مجهود وينتظرك بلا موعد وتعرف أنه يأنس بك دون شك ومخافة إثقال عليه، ويعد لك أصناف المخبوزات المنزلية ويفرح بالتهامك إياها دون أن يتطرق إلى الأثر المحتمل لذلك على وزنك.

لا أعلم إن كان شريط الذكريات يستمر بالمرور في ذاكرتي لأن الواقع أصبح يحتوي على الكثير من الأمور الغير مألوفة إضافةً لأن الكثير من المألوف أصبح فارغ المكان.

أشعر أنني على وشك اتخاذ خطوةٍ أجلتها وحاولت تجنبها مدةً طويلة، هوةٌ في قلبي تستمر في الصعود والهبوط، كشعور المقبل على القفز المظلي الذي طال مكوثه في الطائرة الصغيرة لأن أقدامه لا تحمله على القفز، ضاقت الطائرة به لكنها الخيار الأضمن، فالاحتمالات القائمة بعد القفز غير محصورةٍ ولا مضمونة، والمخاطر لا يمكن التنبؤ بها، ولا يمكن التأكد من هناك من سيستقبله على اليابسة إن وصل أو يوجهه بخطوات فتح المظلة حتى يتم ذلك بشكلٍ آمن.

أنهي الليلة بسؤال وردة (مين قلبه في إيديه؟)، وأتمنى أن يوجَّه قلبي وقلوبكم دائماً لكلّ خيْرٍ وخَيِّر، ولكل مافيه الخير.

زارَ ولم يُخفِّف

تمرّ أيّامٌ يطلُّ فيها الحنين برأسه أكثر من غيرها، يبدأ اليوم بشكله الاعتيادي بين مكالمات العمل ومهامه، أبدأ بإعداد الفطور، أجلس وأفتح صفحات الكتاب الذي أقرأه هذه الأيام لأتصفحه أثناء تناول الإفطار ثم أغلقه على الفور، أفتح اليوتيوب لأشاهد ما أستطيع من خلاله فَصل أسلاك العمل المتشابكة في رأسي مؤقتاً حتى أتمكن من العودة إليه بذهنٍ صافٍ بعد ذلك، إلا أنني أغلقه أيضاً وأجد رغبةً في الجلوس في صمت، ليمتلئ ذهني بالصوّر.

عند البدء في مهامٍ معقدة أحاول إشغال نفسي بأي شيء سوى هذه المهام، وجدت نفسي في قسم مقاطع الڤيديو في ألبوم الصوّر، أشاهد واحداً تلو الآخر، يبدأ ذلك الشعور في التشكل داخل معدتي، شعور “الهوّة”، كيف وأين يذهب المرءُ بكل هذا الحنين الذي يقرر أن اليوم مناسبٌ ليكون ضيفاً يصاحبُ كل مهام ولحظات اليوم دون أي اعتبارٍ لأنني لم أحسب حسابه، علّه يقرر العودة للزيارة في وقتٍ مناسبٍ أكثر كإجازة نهاية الأسبوع مثلاً.

كان وجوده كضيفٍ مألوفاً لكنه ثقيل، لم أرتب يومي لاستقباله، أنهيت اليوم مبكراً وألغيت التمارين الرياضية والكتابة والجزئية التي يفترض أن أنتهي من قراءتها اليوم، وقررت الخلود للنوم باكراً على أمل أن يأتي الصباح بضيفٍ ألطف.

أتذكر تلك الأريكة التي كنت أجلس عليها في غرفتي في منزل العائلة للدراسة وللقراءة، وللحديث بالساعات مع الصديقات، والتي اتخذت منها معظم قرارات حياتي المصيرية. كنت أقرأ وأعيد قراءة ما يكتبه الدكتور أحمد خالد توفيق رحمه الله عشرات المرات، وأحاول نسيان الأحداث في ما يكتب فأعيد القراءة في إجازات الصيف الطويلة.

أفتح عشوائياً أحد روايات سلاسله الموجودة على الرف، أقلبها وأجد العبارة التي كان يرددها رفعت لماجي عندما تسأله إذا ما كان سيظل يحبها إلى الأبد والتي كان دائماً ما يقاطع إكماله لها إحدى المخلوقات أو المصائب:

“حتى تحترق النجوم وحتى..”

لتتردد في ذهني إحدى الجُمَل الأخرى التي كنت أحفظها عن ظهر قلب من إحدى روايات ما وراء الطبيعة: “وداعاً أيها الغريب كانت إقامتك قصيرة، لكنها كانت رائعة، عسى أن تجد جنتك التي فتشت عنها كثيراً.”

يُقال أن السُّلوّ هو عكس الحنين، وأحب أن أتخيل أنني سأستقبله كضيفٍ لطيفٍ خفيفٍ ظريف وإن كانت رحلة وصوله طويلة.